مارتن ساندبو

يتذكر كثيرون أنه حينما تعهد جو بايدن بتقديم مليارات الدولارات لدعم التكنولوجيا الخضراء، فقد أثار ذلك قلقاً كبيراً في أوروبا. وها قد ألغى دونالد ترامب سياسة بايدن الصناعية، وتعهد باستثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي والطاقة الأحفورية بدلاً من ذلك، ليثير من جديد الذعر في أوروبا. وبصرف النظر عن سياسات الرئيس الأمريكي، يبدو أن الأوروبيين يواجهون أزمة وجودية.

ويمنحنا ذلك فكرة عن «ذروة التشاؤم» التي تم التعبير عنها في دافوس. وربما يبرز هذا الموقف المشاعر الأوروبية أكثر من تعبيره عن الآفاق الموضوعية للاتحاد الأوروبي. وهذا لا يعني إنكار أن ولاية ثانية لدونالد ترامب ستشكل تحديات هائلة للنموذجين الاقتصادي والجيوسياسي للكتلة. ولكن سيكون من الأنسب للاتحاد الأوروبي التحلي بمزيد من الريادة وأن يستخدم وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي مصدراً للفرص لتسهيل إجراء التغييرات المطلوبة التي تأخرت كثيراً، واستغلال الضرر الذي توشك الولايات المتحدة على إلحاقه بنفسها.

ولنبدأ بالتجارة، فترامب يريد تقليص العجز التجاري الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي. والزعماء الأوروبيون، يريدون زيادة الاستثمارات المحلية، أي أن كلا الرغبتين تحقق الهدف نفسه. وكما يقر زعماء الاتحاد الأوروبي، فإن الفائض التجاري للتكتل عبارة عن فائض مهول للمدخرات يتم تصديره لتمويل الاستثمارات في الخارج. وإعادة توجيه هذه المدخرات إلى الاستثمارات المحلية تعني التخلي عن نموذج النمو المدفوع بفوائض التصدير.

هناك غريزة أوروبية مفهومة لاسترضاء ترامب والأمل بإنقاذ الوصول إلى السوق الأمريكية، ولكن هذه الغريزة عفا عليها الزمن. وبدلاً من ذلك، يمكن التعلم من الاستراتيجية الأكثر وضوحاً تجاه الصين، وهي تقليل الأخطار، من دون الانفصال الكامل. وقد حذر رئيس الوزراء الألماني المحتمل، فريدريش ميرتز، بشكل صحيح الشركات التي تعتمد على الصين من أنها يجب أن تواجه أخطار الاضطرابات وحدها. ويمكن توسيع هذا النهج ليشمل الولايات المتحدة أيضاً.

ثم هناك مسألة الدفاع، فقد أنفق الأوروبيون كثيراً من الأموال على الدفاع، ولا يعود هذا إلى مطالبة الرئيس الأمريكي بذلك، وإنما خوفاً من روسيا. ويمكن لمطالبة ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، أن تكون الحافز المطلوب لكسر الجمود السياسي عن طريق تغيير السؤال من: هل ينبغي الإنفاق بصورة أكبر على الدفاع إلى كيفية فعل ذلك.

وعلى المدى القصير، يعني ذلك مزيداً من مشتريات السلاح من المصنعين الأمريكيين، وهو وعد سهل بمقايضة التجارة مقابل امتيازات أخرى من واشنطن. وعلى المدى المتوسط، من الممكن أن يؤدي هذا إلى العكس، إذ سيحصل منتجو السلاح الأوروبيون على يقين في شأن طلب مستدام وأعلى، وخاصة إذا تمكنت حكوماتهم أخيراً من توحيد المواصفات والشراء المشترك.

وبالانتقال إلى الطاقة، يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة، ولم يتمكن من التخلي عن خطوط أنابيب النفط والغاز الروسي المسال. ولا يرغب ترامب في شيء أكثر من تعزيز مبيعات النفط والغاز إلى أوروبا. وأسرع طريقة لتحقيق ذلك هي إكمال عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد شراء الوقود الأحفوري الروسي، ولكن ذلك يتطلب إجماعاً، وهو الأمر الذي تقاومه الدول الأعضاء الصديقة لروسيا. والشيء الذكي الذي يجب فعله هو طلب المساعدة من ترامب عبر الإشارة إلى أن المعجبين به في بودابست وحتى في براتيسلافا، هم الذين يقفون في طريق زيادة الطلب.

وإضافة إلى كونه نقطة انطلاق سياسية لتحقيق الأولويات الأوروبية القائمة، فإن التشويش الذي تسبب فيه ترامب يقدم فرصاً جديدة يجب استغلالها. وإن كان الدعم الذي قدمه بايدن لمصادر الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء قد سحب الاستثمارات من أوروبا إلى أمريكا، فمن المنطقي أن يؤدي التغيير الكامل والمفاجئ الذي نعيشه اليوم إلى العكس. والأكثر ترجيحاً أن تلك المخاوف كان مبالغاً فيها دوماً. ولكن نفور معتنقي شعار «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى» من أي شيء ذي صبغة خضراء يعزز الحاجة إلى مضاعفة الحوافز لتكون استثمارات إزالة الكربون في أوروبا أكثر ربحاً بعدما صارت أقل ربحاً في الولايات المتحدة.

وعند الحديث عن الهجرة، فقد شهدت أوروبا دائماً نزيفاً للمواهب لمصلحة الولايات المتحدة، كما اشتركت شركات التكنولوجيا المتقدمة في الشكوى من نقص الموظفين ذوي الكفاءة. وإذا ثَبتَ أن الولايات المتحدة تحت شعار «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى» أصبحت شديدة التطرف بالنسبة للشباب المتعلّمين من أرجاء العالم كافة، فمن شأن الاتحاد الأوروبي الذي سيفتح ذراعيه لهم أن يكون مركزاً عالمياً للجذب. ويجب تعزيز برامج الهجرة للعمالة شديدة المهارة التي تسمح بالتنقّل بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل مبادرة البطاقة الزرقاء، وربما يجب أن يحدث ذلك بالتزامن مع الإطار القانوني الأوروبي الشامل للشركات المبتكرة الذي طالبت به شركات التكنولوجيا الأوروبية وتعهدت بروكسل بإقراره.

عموماً، ينبغي لأوروبا الاستماع إلى كلمات رئيس أمريكي أسبق قال فيها: ليس هناك ما تخشاه سوى الخوف ذاته. ولذلك سيكون أفضل رد على عدوانية ترامب هو استغلالها، لتكون أوروبا عظيمة مرة أخرى.