روبرت أرمسترونج وأيدن رايتر
بعد نجاح شركة «ديب سيك» في عرض نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تنافسية بتكلفة أقل بكثير مما كان يعتقد، هناك حاجة قوية إلى مراجعة وجهة نظرنا حول الهيكل الاقتصادي المحتمل لصناعة الذكاء الاصطناعي.
فالأرباح ستكون أقل تركيزاً، وسيتمكن المستخدمون من تحقيق قيمة أعلى. وقد وصف سام ألتمان رئيس «أوبن أيه آي»، هذه التطورات بأنها محفزة حقاً، وهو ما قال مراقبون إنها صياغة لطيفة تعبر عن خسارة فادحة في صافي ثروته الشخصية.
وبالنسبة للمسألة المتعلقة بتوزيع القيمة الاقتصادية، فهي تبقى مفتوحة. وهذا يعتمد على كيفية تأثير ظهور منافس بتكلفة أقل بشكل جذري على الطلب على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان الطلب على هذه التقنية مرناً جداً من حيث السعر (وهو ما يفترض أن يكون)، فهذا يعني أن العالم سيستخدم التقنية بشكل أكبر بكثير مما كنا نعتقد قبل أن تحقق «ديب سيك» اختراقها التقني.
وعند النظر إلى عمليات البيع القوية لأسهم شركات الكهرباء القريبة من مراكز البيانات الساخنة، فقد يتم تفسيرها على أنها إشارة إلى أن السوق تقول إن مراكز البيانات لن تحتاج لكثير من الطاقة لأن الطلب على خدمات الذكاء الاصطناعي لن يرتفع بشكل كبير مع انخفاض تكلفتها.
لكن هذه ليست بالضرورة هي الرسالة، فربما تقول السوق إن الطلب على الكهرباء لن يكون.
حيث كنا نعتقد، أي قرب مراكز البيانات الكبيرة التي تديرها شركات التكنولوجيا العملاقة الأمريكية. وبدلاً من ذلك، سيتم تشغيل الذكاء الاصطناعي في مراكز بيانات أصغر في كل مكان ممكن.
لكن ماذا عن قطاع أشباه الموصلات؟ هناك جدل حول ما إذا كان الاختراق الذي حققته «ديب سيك» يعني أن «إنفيديا» على وشك فقدان قدرتها على التحكم في الأسعار (السوق قرر، حتى الآن، أنها لن تفقدها).
وهناك سؤال آخر يتعلق بشركات أشباه الموصلات التي تنتج رقائق غير معالجات الرسومات الضرورية لمراكز البيانات:
رقائق الشبكات «برودكوم»، ورقائق الذاكرة «مايكرون»، ورقائق إدارة الطاقة «مونوليثيك». فإذا كان الطلب على خدمات الذكاء الاصطناعي مرناً من حيث السعر، فقد تواصل هذه الشركات - التي تعرضت لضربة قوية - نموها السريع.
وقدم ستايسي راسجون، محلل أشباه الموصلات في «برنشتاين»، تلخيصاً جيداً للوضع، قائلاً: إذا سلمنا بأن ديب سيك نجحت في خفض تكاليف تحقيق أداء نموذج مكافئ بمقدار 10 أضعاف، ففي الوقت نفسه، تتزايد تكلفة النماذج الحالية بالقدر نفسه كل عام (قوانين التوسع) لكن هذا لا يمكن أن يستمر للأبد.
وفي هذا السياق، نحن بحاجة إلى ابتكارات مثل التي قدمتها «ديب سيك». وكخبراء في أشباه الموصلات، نعتقد بقوة في مفارقة «جيفونز»، حيث يؤدي تحسين الكفاءة إلى زيادة الطلب، ما يعني أن أي قدرة حوسبة إضافية سيتم استيعابها سريعاً من خلال زيادة الاستخدام والطلب.
وتتسم أسواق أسهم شركات أشباه الموصلات بتقلباتها الشديدة ودوراتها المتكررة، ولا تزال بعض هذه الأسهم مقيمة بأعلى من قيمتها الحقيقية حتى بعد موجة التصحيح التي شهدتها الأسواق الأسبوع الجاري.
غير أن الأداء الاستثنائي الذي حققه هذا القطاع على مدار العقد الماضي لم يكن وليد الصدفة، بل يعكس حقيقة جوهرية هي أن: العالم يتجه بشكل متسارع نحو الاعتماد على تقنيات السيليكون في كل مجالات الحياة. ولم يغير الإعلان الأخير لشركة «ديب سيك» شيئاً من هذا الاتجاه الأساسي.
ولم تقتصر التداعيات على شركات الرقائق والمرافق والبنية التحتية لمراكز البيانات، بل أثرت أيضاً على أسواق السلع. فقد تراجعت أسعار النفط والنيكل (أحد المكونات الرئيسية في صناعة البطاريات)، وسجل النحاس، الذي يستخدم في توصيل الكهرباء إلى مراكز البيانات، انخفاضاً حاداً.
ويتميز سوق النحاس بتقلبه الشديد، وترتبط أسعاره ارتباطاً وثيقاً بالأخبار الاقتصادية الواردة من الصين، أكبر مستهلك عالمي للنحاس. وكانت الأسعار بلغت ذروتها في سبتمبر مع تفاؤل السوق بخطة التحفيز الاقتصادي في بكين، ثم تراجعت مع تبدد هذا التفاؤل.
أما ارتفاع ديسمبر، الذي تآكل جزئياً بسبب أخبار هذا الأسبوع، فجاء بعد إعلان الصين تحقيق هدف نموها البالغ 5 %. ونظراً لطبيعة السوق، يفضل المستثمرون شركات تعدين النحاس لتحقيق عائد أفضل، وقد تراجعت أسهمها هذا الأسبوع متأثرة بتوقعات الاقتصاد الصيني.
وظهر في السنوات الأخيرة اتجاه قوي للاستثمار في النحاس، فالأسلاك النحاسية تمثل عنصراً أساسياً لا غنى عنه في مشروعات التحول نحو الطاقة النظيفة وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. في المقابل، تتطلب زيادة إنتاج النحاس استثمارات ضخمة ووقتاً طويلاً.
وينبغي أن تؤدي هذه المعادلة إلى ارتفاع الأسعار وتحقيق عوائد قوية على المدى القصير، مع ضمان استمرار الطلب على المدى الطويل.
وباستثناء شركة واحدة، زادت كبرى شركات التعدين استثماراتها في تعدين النحاس خلال العامين الماضيين.
لكن التوقعات تشير إلى تباطؤ هذه الاستثمارات قريباً، في خطوة تهدف لتحقيق توازن يحافظ على الأسعار مرتفعة دون أن يحد الطلب أو يحفز استثمارات إضافية تزيد المعروض. فهل سيؤدي هذا التطور إلى تقويض التوقعات المتفائلة لسوق النحاس؟
إذا أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة في استهلاك الموارد، فهل سيؤدي ذلك إلى انخفاض الطلب على مراكز البيانات، وبالتالي تراجع الحاجة إلى النحاس؟
وعندما نضيف إلى ذلك موقف الإدارة الأمريكية الجديدة المتراجع عن دعم مبادرات التحول نحو الطاقة النظيفة، يبدو أن المشهد المستقبلي لسوق النحاس يتجه نحو مزيد من التدهور.
لكن ذلك كله يعتمد على اتجاهات الطلب على الذكاء الاصطناعي. وإذا أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر شيوعاً وتوافراً، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة عدد مراكز البيانات، المملوكة لجهات مختلفة وفي أماكن متنوعة.
وهذا من شأنه أن يعزز الحجج الداعمة للنحاس: فمراكز البيانات الجديدة قد لا تعتمد على شرائح إنفيديا أو برودكوم، وقد لا تكون متمركزة في ولاية واشنطن أو فرجينيا، لكنها ستظل تحتاج إلى الكمية نفسها من أسلاك النحاس.
وهناك غموض يكتنف مستقبل العرض والطلب على النحاس، حيث لا تفصح معظم شركات التعدين عن إنفاقها على عمليات الاستكشاف. غير أن شركة «فريبورت-ماكموران» تمثل استثناءً في هذا المجال.
وتكشف بياناتها عن زيادة سريعة في الإنفاق على الاستكشاف، رغم أن هذا الإنفاق لا يزال ضئيلاً مقارنة بإجمالي نفقاتها الرأسمالية. وقد تكون هذه إشارة إلى أن شركات التعدين الأخرى تتجه أيضاً نحو زيادة المعروض في السوق على المدى البعيد.
في النهاية، من المؤكد أن العالم سيحتاج إلى كميات متزايدة من النحاس في المستقبل. لكن الطريق سيكون محفوفاً بتقلبات حادة في الأسعار، قد تفوق في حدتها التقلبات التي نشهدها حالياً في سوق أشباه الموصلات.