في زمن تتعاظم فيه أهمية التكنولوجيا، يبرز النشر الرقمي كحلقة محورية في مشهد النشر العربي وتحدياته والتي سوف تناقشها فعاليات مهرجان طيران الامارات 2025 في دورته الــــــ17 ، كمستقبل مرهون بالمنصات الافتراضية وذائقتها الثقافية، غير أن هذا التحول يواجه تحديات كبيرة تتطلب من الناشرين إعادة التفكير في استراتيجياتهم الرقمية كمسار تكاملي مع النشر الورقي كخطوة أولى ضرورية لتعزيز الوعي بحقوق الملكية الفكرية، وتسليط الضوء على ظاهرة القرصنة، في ظل الصعوبات والعقبات التي تواجه الناشرين العرب، ويقدم رؤى حول كيفية تجاوز هذه التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة في عالم النشر الرقمي، بما يضمن استدامة العمل في هذا المجال المتغير الإيقاع والأدوات.

قيمة الاستثمار

وحول أهم الصعوبات والعقبات التي تعترض دروب الناشرين المتخصصين بالنشر الرقمي قال الكاتب الإماراتي ومؤسس دار الهدهد للنشر والتوزيع علي الشعالي، إنه في بادئ الأمر على الناشر أن يقتنع بالفكرة، ويتحلّى بالإيمان بالنشر الرقمي مساراً موازياً للورقي، مكمّلاً له لا منافساً، رافداً لا معيقاً لعملياته ومشاركاته في المعارض والمحافل، وعندها سيعقد العزم على اتخاذ الخطوات اللازمة.

غنيّ عن القول إن الناشرين متفاوتون في تعليمهم ونظرتهم لمثل هذه التطورات وعلى عكس ما يظن سوى المتخّصصين، يتطلب النشر الرقمي حتى للكتب الجاهزة لاستثمار في التقنيات، والمهارات، ويستغرق وقتاً، مما يعني أن جدواه التجارية ينبغي أن تخضع للدراسة، وهنا تكمن المعضلة الأكبر، فالغالبية العظمى من القرّاء تظن خطأ أن الملفات الإلكترونية منتج جانبي، وليسوا مستعدين للدفع لقاء الحصول عليها، وهذا مؤسف ومحبط للعملية بأكملها، فبدون طلب لا يمكن أن ينمو العرض.

ويوضح الشعالي أن الموازنة بين المحتوى الورقي والرقمي فيما يتعلق بقضايا النشر في العالم العربي لا تحصل إلا بعد ضمان أن تستمر عجلة العمل في الدوران، وبالتالي يطرح الناشرون أعمالهم في الهيئة التي يغلب على ظنهم أنها مصدر للدخل، ثم يتوسعون للنشر الرقمي والهيئات الأخرى.

الناشر الواعي يعلم أن مهمّته الرئيسة هي قبول وتطوير نصوص جيدة، وإيصالها إلى أفضل هيئاتها لتلقى قبول القارئ، وهذا يحقق الأهداف التجارية والتنموية.

تحديات الصناعة

ومن جانبه أكد محمد أحمد بن دخين المطروشي، أمين صندوق جمعية الناشرين الإماراتيين، أن ساحة النشر الرقمي ساحة خضراء وواسعة والفرص مازالت فيها كبيرة، دعينا نستبدل صعوبات إلى تحديات عميقة تواجه هذه الصناعة على مستويين أولاً القارئ العربي يجد من الأسهل الحصول على نسخة مصورة من الكتاب بدون دفع أي مبلغ بالرغم من أنه بدأ يعلم أنه يوجد حقوق للملكية للمؤلف والناشر.

وهناك 6 من أصل كل 10 أطفال ومراهقين لا يحققون الحد الأدنى من إجادة القراءة في العالم، ولا أزيد ثانياً 2.6 مليار إنسان في العالم لا يحصلون على الكهرباء بشكل مستمر، القارئ العربي له نصيب معتبر من هذا الرقم، فملاذه الوحيد الكتاب المطبوع، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة للأهداف العالمية للتنمية البشرية.

عوالم افتراضية

وأشار المطروشي إلى أن الدراسات أثبتت عربياً وعالمياً أنّ النشر الرقمي مكمل ومحفز للنشر المطبوع، لاسيما في الدول المستقرة والمتوفر لديها تكامل تكنولوجي فأصبح من السهل جداً نشر المحتوى العربي عبر منصات عالمية وعربية، وهنا السؤال كم حجم المحتوى العربي المتاح في العالم الافتراضي مقارنة مع بقية اللغات، قليل جداً ومازالت نفسها التحديات القديمة متكررة، مثل قرصنة المحتوى، مما يؤثر سلباً في المنصة الإلكترونية العربية كمنفذ بيع، تحدي الفقر وعدم القدرة على اقتناء الجهاز، تفرق الجهود والاستثمارات العربية في دعم الصناعة الابداعية.

كذلك ذائقة القارئ توجه الناشر وأحياناً المؤلف لتوجيه المحتوى نحو ما هو مطلوب حالياً لدى القراء الروايات وقصص الخيال، ولاسيما المترجم منها التي بدأت تأخذ مساحة كبيرة جداً من ذائقة أجيال الشباب العربي عموماً.

الكتاب الإلكتروني

ومن جانبه يعتقد المهندس محمد قنديل، الرئيس التنفيذي لدار ملهمون للنشر والتوزيع أن قلة وعي الناشر بمدى أهمية النشر الرقمي وحرصه دائماً على إبقاء ملفات الكتاب بأمان وعدم عرضها على أي منصة إلكترونية خشية من التزوير والقرصنة التي تمثل أكبر تحدٍ للناشر في الوقت الحالي، كما أن إطلاق العمل ورقياً وإلكترونياً يمثل انتشاراً سريعاً للناشر، وقد يدعم الكتاب الإلكتروني تواجد الكتاب الورقي في بعض الدول التي تمثل تحدّياً للناشر في شحن الإصدارات لها.

وعن قيود النشر الرقمي ومعاييره والتفضيلات التي تحكمه، من قبل الناشر والقائمين على دور الكتب والطباعة قال قنديل: للناشر الحرية التامة في اختيار المواضيع التي سيقوم بنشرها ولا يوجد أي نوع من القيود التي تحكم نشر أو تسويق العمل، وكما ذكرت سابقاً أن النشر والتواجد يمثل تسويقاً لانتشار الكتاب سواء ورقياً أو إلكترونياً بالنسبة لدار ملهمون للنشر والتوزيع، فتقوم بنشر الكتاب الإلكتروني قبل الكتاب الرقمي، وهذا يعد من أهم العوامل التي تساعدنا على التواجد في السوق العالمي والانتشار السريع.

متطلبات السوق

وحول تجربتها كمديرة عامة للنشر في دار الآداب للطباعة والنشر والتوزيع منذ عام 1986 حتى اليوم عاصرت خلالها الكثير من المتغيرات في سوق النشر وأهمها صعود النشر الرقمي وانتشاره تقول رنا إدريس، المديرة العامَّة لدار الآداب للطباعة والنشر والتوزيع: قد يكون ثمَّة أكثر من جواب واحد على السؤال نفسه، بحسب القائمين على السياسة النشرية في دور النشر المختلفة في العالم العربي: كيف نجاوز بين النشر الورقي والنشر الرقمي؟ هل سيؤثر في مبيعات الكتب الورقية، علماً بأنّ على الكتاب الإلكتروني أن يكون سعره أقل من الكتاب الورقي بثلاثين بالمئة أو ربما بنسبة أعلى أحياناً.

هل نكتفي بمنصة رقمية واحدة أو ننوِّع المنصات؟ هل نثق بأرقام المبيعات التي لا نملك أية مراقبة عليها؟ هل سيكون محتوى الكتب التي نقرِّر إدراجها على المنصات الإلكترونية مختلفاً عن محتوى الكتاب الورقي؟ وهل سنضطر، وهنا السؤال الأصعب، إلى تغيير أهداف سياستنا النشرية تماشياً مع متطلبات السوق الرقمية؟

وأضاف إدريس: بعد تردّد ودراسة، قررنا أن نختار منصتين نثق بهما اليوم: منصة «أبجد» ومنصة «أمازون»، وقد أضفنا عليهما منذ شهرين منصة «Bookwire». وكان هذا القرار بعد أن أيقنَّا أنْ لا مفرّ من الكتاب الرقمي.

وقد تضافرت ظروف عديدة وضعتنا أمام الواقع: أجور شحن الكتاب الورقي ارتفعت بشكل كبير، حروب المنطقة جعلت الكتاب الورقي أصعب للوصول إلى القارئ في العالم العربي والعالم الغربي، الرقابات العربية على الكتب الورقية تصبح سطوتها أقلّ، الجيل الجديد قد أَلِفَ القراءة على الهواتف النقالة وعلى الألواح الإلكترونية، الأماكن المتاحة في المنازل لمكتبة كبيرة تقلَّصت، وواقع القرَّاء المهاجرين من بلادهم والمتنقلين بين قُطر وآخر حسب ظروفهم، فالكتب الورقية الثقيلة الوزن قد تُعيق تحركاتهم.

منصات شرعية

وتستطرد إدريس: تأثرت مبيعات الكتب الورقية من جرَّاء تواجد عناويننا على هذه المنصات سلبياً، ونلمس ذلك بشكل واضح من المردود المادي العام. وتبيَّن لنا أنّ عدداً لا بأس به من قرَّاء الكتاب الورقي يقرأون كذلك الكتاب الإلكتروني.

ولكن أصحاب دور النشر يعتقدون أنّ كارثة الكتب الإلكترونية على منصات «شرعية» قد تخفف من كارثة الكتب المقرصنة إلكترونياً والتي في متناول ملايين القرَّاء بشكل غير قانوني، وهي سرقة حقوق المؤلِّف والناشر على حدٍ سواء.

من جهة ثانية، أقرُّ بأنّ دار الآداب لم تسعَ يوماً إلى تغيير سياستها النشرية بالنسبة للمحتوى، بسبب النشر الإلكتروني، فهي دار لديها أهدافها الثقافية والسياسية الواضحة، ومعاييرها الصارمة في اختيار النصوص، وتبقي التساؤلات مطروحة أيضاً أمامكم «هل حققنا مستويات أعلى من القراءة؟ ربما»، «هل هذا سيؤثر في استمرارية دور النشر؟ حتماً، وأمامنا تحدّيات كبيرة علينا أن نواجهها كل يوم، وكل ساعة».