عاد قلب غزة ينبض بالحياة، والتقط الغزيون أنفاسهم، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، اليوم الأحد، بعد 470 يوماً من أبشع حروبها وأيام دهرها، حيث ستطوي صفحة السير على الحبال المشدودة فوق وعاء النار، بما يمهد الطريق أمام نهاية حتمية لهذه النسخة المروعة من الحروب.

على ركام المنازل، ومن قلب دخان كثيف، وعلى وقع آخر الغارات، انبلج وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد جحيم حرب ضروس، حمّلت غزة ما لا طاقة لها به، وغيرت معالمها، فأمسكت غزة بحبل النجاة.

كل شيء في الدوحة، مسرح الموقعة السياسية، كان يشي بأن الاتفاق هذه المرة سيخرج من فم الحوت، فوجود مبعوثي الرئيسين الحالي والمنتخب للولايات المتحدة برهن على أن البيت الأبيض ألقى بثقل وازن لإنجاز الاتفاق، وإخماد المدافع، والشروع في صفقة تبادل الأسرى، فصب التزاحم ما بين ختام ولاية رئاسية، وتدشين أخرى بما يشبه «الإنجاز العظيم» في مصلحة غزة، التي اقتنصت وقف كرة النار، وإن خرج إلى النور بولادة قيصرية.

أسئلة

ستهدأ الحرب، لكن غزة ظلت تترنح على فوهة أسئلة مروعة، تتطاير على تخوم اليوم التالي لأعتى الحروب، والتي شكلت المجاعة ومشاهد النزوح أعلى موجاتها، فضلاً عن الأعداد الهائلة للضحايا.

وهكذا، وبعد ما يزيد على 15 شهراً، تخللها 12 جولة تفاوضية، وما بين مماطلة إسرائيلية، وحض عربي ودولي، أخمدت نار الحرب الأكثر دموية، لتطوي معها هستيريا الدمار، وسيظل يوم 19 يناير علامة فارقة ومضيئة في تاريخ الدبلوماسية العربية، ونجاحها أخيراً في وقف مآسي الحرب على غزة.

رافق جهود الوساطة لإنهاء الحرب ما يشبه الاحتباس السياسي، وظهرت أكثر تجلياته في إسرائيل، إذ اصطدمت جهود الوسطاء، خلال 12 محطة تفاوضية، بمراوغة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الغارق في قضايا سياسية، ومتاعب ائتلافية، فأمعن غير مرة في تأزيم المساعي الدبلوماسية، مراهناً على دعم أمريكي، سرعان ما أقنع إسرائيل بأن أطول الحروب على غزة لم يعد لها ما يبررها، وأن إسرائيل حققت القدر الكافي من أهداف وإنجازات الحرب، فكان المتغير الأهم الضغط الأمريكي، بوضع إشارة «قف» أمام نتانياهو، عند تقاطع مصالح سياسية، ومتممات قضايا وملفات دولية.

في نوفمبر 2023 سطرت الوساطة السياسية، التي قادتها قطر ومصر وأمريكا، نجاحاً ملموساً، أفضى إلى الهدنة الأولى للحرب، والتي استمرت أسبوعاً، تخلله الإفراج عن 50 من المختطفين الإسرائيليين، و150 أسيراً فلسطينياً، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتضمن الاتفاق إمكانية تمديد يوم إضافي لكل 10 إسرائيليين يطلق سراحهم، لكن الهدنة لم تصمد طويلاً، وسرعان ما عاد غبار الحرب يغطي سماء غزة.

مبادرات عربية

وخلال عام 2024 نهضت مبادرات سياسية عربية ودولية عدة، عقدت أغلبيتها في الدوحة والقاهرة، وكان من أبرزها مباحثات باريس، ومحادثات روما، لكنها مرت جميعها دون انفراجة، بعد تمسك «حماس» بوقف دائم للحرب، ومماطلة نتنياهو ووصفه مطالب «حماس» بأنها خيالية.

ومنذ نهاية اتفاق الهدنة الأول في 30 نوفمبر 2023 شهد مسار التفاوض بين إسرائيل وحركة «حماس» محطات بارزة، تحت رعاية أطراف إقليمية ودولية فاعلة، أبرزها قطر ومصر والولايات المتحدة، في محاولة للوصول إلى اتفاق شامل، توافق عليه الأطراف المعنية. وقد عقدت 12 جلسة مفاوضات، بعضها كان غير مباشر بين «حماس» وإسرائيل، وبعضها لوسطاء دون مشاركة «حماس» أو إسرائيل.

الاتفاق

وفيما كانت الحرب تطوي يومها الـ467 لاحت من الدوحة تباشر اتفاق، استبشرت به غزة والعالم أجمع، بعد أن مر بلحظات عصيبة، كادت أن تؤدي إلى نسفه، لولا جهود الوسطاء، والضغط الأمريكي، للحد من الأضرار التي نتجت عن الحرب، وعلى مشارف شرق أوسط، كاد يحرقه «جحيم» ترامب.

أكثر ما هو إيجابي في إعلان وقف النار هو الإقفال على حرب الإبادة والتطهير والتهجير، وإزالة هذا الكابوس المرعب، الذي ظل يجثم على صدور الغزيين على مدار 470 يوماً، فنزع كل مقومات الحياة، وانتزع أرواح المدنيين العزل، لكن لا يبدو أن أزمة غزة ستنتهي بوقف الحرب، إذ ستكون مجبرة على شراء وقت إضافي، للتعايش مع كل هذا الدمار.

وفيما تقف غزة على مشارف حياة جديدة، قوامها عودة النازحين إلى منازلهم المدمرة، ودخول قوافل المساعدات الإغاثية، ورفع ركام الحرب، إلا أن وجعها الأكبر سيطل من خلال رحلة البحث عن المفقودين، وعلاج الجرحى، وإعادة الإعمار، والتعايش مع أشباه المنازل، وفقدان الآباء والأبناء.

وفي الجانب السياسي لم تغادر القضية الفلسطينية طاولة المجتمع الدولي، ويرجح مراقبون أن تدخل السلطة الفلسطينية على خط التفاوض والحوار السياسي لما بعد الحرب، خصوصاً أن توترات الإقليم، التي نشبت في ظل الحرب على غزة، هي نتاج تأجيل حل القضية الفلسطينية.

ورغم أن اتفاق وقف الحرب أخرج أهل غزة من الظلمة إلى النور، ومنحهم الحياة من جديد فإن مستقبل قطاع غزة سيظل شائكاً ومعقداً بعد الحرب، ويرتبط هذا بمسائل عدة، قد تستغرق وقتاً إضافياً. ويخشى الغزيون من تراجع الاهتمام الدولي بأوضاعهم بعد وقف الحرب، مع انشغال أمريكا والمجتمع الدولي بملفات ساخنة أخرى، ومن هنا سيكون من الصعب التنبؤ بما هو قادم، وإن كان المرجح أن ينصب الاهتمام على إعادة الإعمار، وإنعاش حياة السكان.

مستقبل غزة

يقرأ مراقبون فيما يخص مستقبل غزة بعد الحرب أن تظل التهدئة ضمن الضوابط الأمريكية والعربية والدولية، وتبعاً للأولويات، دون إغفال سباق المبادرات السياسية، لما هو أبعد من الحرب.

ومن بين ركام الحرب ترتسم على وجوه الغزيين أسئلة كبرى من قبيل: ماذا ينتظر غزة بعد دمار الحرب؟ وعلى ماذا سينجلى المشهد بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟ وهل ستقود الهدنة الثانية إلى وقف إطلاق نار دائم؟

يقول الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، إن الحرب على غزة التي قل نظيرها في التاريخ أثبتت استحالة تجاوز القضية الفلسطينية، ويجب أن تكون بداية الطريق لحل نهائي للقضية الفلسطينية، مضيفاً: «نحن بحاجة إلى تغيير في التركيبة السياسية دون إقصاء أحد».

وتابع: «تكبدنا خسائر فادحة ودماراً شبه شامل، ولم نحرر البلاد أو أي جزء منها، بل بتنا في وضع أصعب، لقد تغيرت المعادلة في الإقليم، وحان الوقت للتغيير في فلسطين، والدفع باتجاه اتفاق أكبر ينهي الصراع»، بينما يرى الباحث السياسي رائد عبدالله، أن أسوأ صفحات غزة طويت باتفاق وقف الحرب، ولكن «حتى لا نكون عرضة للدخول في مواجهة أخرى قادمة، وصراع دام، يجب ألا تظل القضية الفلسطينية رهينة لمفاجآت طرفي الصراع».

ومضى يقول: «بعد هذا الاتفاق الأشبه بالحلم يبحث الفلسطينيون عن نهاية لهذا الصراع الدامي، والحيلولة دون انفجاره مستقبلاً، ومما يمكن أن نستخلصه من الحرب أن ما لم يتحقق بالحرب يمكن تحقيقه بالسلام، ولولا العناد السياسي لأنجز هذا الاتفاق خلال الأشهر الأولى للحرب».

الحرب بالأرقام

وحسب فلسطينيين في غزة، فحسابات الربح والخسارة في الحرب لا تنتهي مع توقف هدير الطائرات وأصوات المدافع، فقطاع غزة تحول إلى مكان غير صالح للعيش الآدمي، وهنالك جرحى ومرضى يحتاجون للعلاج، والدمار الهائل الذي طال المنازل والمدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات والبنى التحتية سيحتاج رفعه إلى وقت طويل، وكذلك إعادة الإعمار، وعليه فآثار الحرب ستظل ماثلة إلى حين. وربما حطمت غزة الرقم القياسي على مستوى سفك الدماء في الشرق الأوسط، من خلال متوالية الحروب والمواجهات المستمرة مع إسرائيل، فانهارت المباني، وتحولت الشوارع إلى ساحات أشباح، لكن ما يهم أهل غزة أن المسافة صفر من وقف الحرب ارتسمت أخيراً.

وفي جردة حساب لتداعيات الحرب على قطاع غزة بلغ عدد الضحايا 46899 فلسطينياً، بينهم 15441 من الإناث، 14738 من الأطفال، و3550 من المسنين، وزاد عدد المعتقلين على 4000، وتم تدمير 243600 وحدة سكنية.

في اليوم الأخير للحرب بدا المشهد منقسماً في غزة، فأهلها منشغلون بإعداد ما يشبه مراسم الوداع لأطول الحروب وأكثرها فظاعة، بينما إسرائيل ألقت بأثقل ما خبأته مقاتلاتها الحربية لنسق الضربة الأخيرة، ما رفع منسوب الترويع بينما كان إعلان وقف النار يتأهب كي يبدأ سريانه.

وفيما تبدو غزة منهمكة في لملمة آثار 15 شهراً من الحرب، يسود الترقب في صفوف الغزيين، حول مجريات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، المفترض أن توقف الحرب بشكل كامل.

ويقول فلسطينيون من قطاع غزة، إن المنطقة لن تنعم بالهدوء والاستقرار، إلا بحل شامل لكل الصراعات والقضايا العالقة، لكن من وجهة نظرهم، طالما تم التوصل إلى الاتفاق الأولي فهذا يعطي الدبلوماسية فرصة أكبر على حساب الحرب المدمرة. ومضت الساعات الأخيرة، التي سبقت دخول إعلان وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بخطوات ثقيلة، وبدت عقارب الساعة كأنها توقفت، وطالت آخر ليالي الحرب، لكن غزة اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، تبدو منهمكة في لملمة آثار «أم الحروب»، وترقب هلال «الأحد السعيد» ومشحونة بالتوتر والقلق ما بين ترميم المنازل، واستقبال الأسرى المنوي الإفراج عنهم، وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وعلاج الجرحى، وخوض غمار الإعمار.