للمرة الثالثة في تاريخ كوريا الجنوبية (من بعد حدثين مشابهين في عامي 2004 و2016) قرر المشرعون مؤخراً عزل رئيس الجمهورية، لتواجه البلاد ما يمكن وصفه بأكبر تحد لنظامها الديمقراطي منذ عقود، فرئيس البلاد موقوف عن العمل وتنتظره محاكمة، والبلاد تدار بالإنابة من قبل رئيس وزراء تحوم حوله اتهامات لدوره في مرسوم إعلان الأحكام العرفية، و«حزب قوة الشعب» الحاكم منقسم على نفسه وتجري في أروقته عمليات تطهير، والمعارضة منتشية لكن زعيمها متورط في أكثر من قضية فساد، والسلطة القضائية المنوط بها الحسم غير مكتملة العدد.
هذا مختصر المشهد السياسي الفوضوي في كوريا الجنوبية وهي على أعتاب عام جديد، الأمر الذي لم يكن متوقعاً لولا قيام الرئيس «يون سوك يول» بإعلان الأحكام العرفية فجأة في 14 ديسمبر 2024، في عملية تحد للبرلمان المعرقل لخططه بسبب هيمنة المعارضة ذات التوجهات اليسارية على أغلبية المقاعد.
تكافح كوريا الجنوبية اليوم من أجل لملمة مشاكلها السياسية والدستورية والحزبية، لكن الأمور تبدو صعبة ومتشابكة وقد يطول حلها.
فإذا قررت المحكمة الدستورية المصادقة على قرار البرلمان بعزل يون، فإنه يجب الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال 60 يوماً.
وترجح استطلاعات الرأي أنه في هذه الحالة، وإذا ما ترشح زعيم المعارضة «لي جاي ميونغ»، فإنه سيصبح الرئيس المقبل.
غير أن ترشح الأخير تقف دونه عقبات كثيرة منها سلسلة قضايا فساد منظورة ضده حالياً أمام المحاكم، (في نوفمبر الماضي مثلاً، أدين بانتهاك قوانين الانتخابات، كما أنه يواجه اتهاماً بأنه طلب، حينما كان حاكماً لمقاطعة «جيونغ جي»، من شركة ملابس كورية جنوبية تحويل 8 ملايين دولار إلى كوريا الشمالية لتسهيل زيارته للشطر الشمالي).
هذا علماً بأن ميونغ حاول طويلاً التهرب من الإدانة عن طريق الطعن في الأحكام الصادرة ضده أو تغيير عنوانه أو إيجاد ثغرات قانونية، وقد يستمر في هذه الحيل إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية.
لكن إذا أدين بتهمة الرشوة المذكورة فإن من شأن ذلك أن يوجه ضربة قوية لسمعته السياسية ويقوض فرص فوزه بالرئاسة، خصوصاً وأنه لا يزال متهماً بالتورط في ثلاث قضايا جنائية أخرى.
ومن الأمور التي تزيد المشهد الكوري تعقيداً، ما خص المحكمة الدستورية المنوط بها المصادقة على عزل الرئيس يون من عدمه.
فالمحكمة المكونة من تسعة قضاة لم يعد بها سوى ستة قضاة (ثلاثة ليبراليين، وثلاثة يمينيين) بعد أن شغرت مقاعد الباقين بالتقاعد، وعليه فإذا رفض قاض واحد موضوع عزل الرئيس فسيتم إعادة يون إلى منصبه.
وتتخوف المعارضة من طريقة تصويت رئيس المحكمة الدستورية القاضي اليميني «تشيونغ هيونغسيك» الذي يدين بفضل تعيينه للرئيس يون.
ولهذا تسابق المعارضة الزمن في سبيل ملء مقاعد القضاة الثلاثة الشاغرة وسط مزايدات ومساومات برلمانية ساخنة.
يردد مراقبو الشؤون الكورية عادة مقولة إنه من الصعب التنبؤ باتجاهات الميول السياسية في كوريا الجنوبية، لكنهم يزعمون أنه كلما سقط رئيس يميني حل مكانه رئيس ذو توجهات يسارية، مشيرين إلى ما حدث في انتخابات مايو 2017 حينما حقق المرشح اليساري «مون جاي إن» فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية المبكرة التي أجريت آنذاك بعد عزل الرئيسة اليمينية «بارك جيون هاي» بتهمة الفساد السياسي.
وهناك من يتبنى فكرة «أن اليمين عادة يسقط بسبب الفساد، بينما يسقط اليسار بسبب الانقسام» في كوريا الجنوبية، غير أن ما يجري اليوم هو العكس تماماً، فاليسار هو الذي يعاني من الفساد بدليل أن زعيم المعارضة اليساري «لي جاي ميونغ» يواجه نحو خمس محاكمات منفصلة بتهم تتراوح بين الرشوة وخيانة الأمانة وانتهاك قانون الانتخابات كما ذكرنا آنفاً، دعك من فقدان زعيم يساري بارز آخر هو «تشو كوك» لمقعده البرلماني مؤخراً على خلفية حكم ضده بالفساد. إلى ذلك تمت إدانة زوجتي ميونغ وكوك اليساريتين بتهمة إساءة استخدام بطاقات الائتمان المصرفية والاحتيال الأكاديمي.
في مقابل هذا نجد أن اليمين، ممثلاً بحزب قوة الشعب الحاكم، هو الذي يعاني من الانقسام بدليل انحراف 23 مشرعاً منتمياً له عن الموقف الرسمي للحزب بخصوص مساندة الرئيس يون، وقيام كبار رموز الحزب بالضغط على رئيسهم «هان دونغ هون» لتقديم استقالته بسبب انتقاده لرئيس البلاد، واستبداله بوجه مألوف هو «كوون سيونغ دونغ»، ناهيك عن حملة تجري على قدم وساق لتطهير صفوف الحزب من الأعضاء والرموز غير المخلصة أو المترددة في مواقفها السياسية.
وبطبيعة الحال فإن هكذا وضع يجعله عاجزاً عن لملمة صفوفه بسرعة لتقديم مرشح رئاسي جدير بالثقة وقادر على استقطاب الأصوات والفوز.