لا شك أن وجهات النظر حول الاستدامة كثيرة ومتعددة، إلا أن من الأقوال التي استرعت انتباهي قولاً يلخص بذكاء التحول المنشود في نظرتنا إلى مسألة الاستدامة. وينسب هذا القول المأثور لسكان أمريكا الأصليين: إننا لا نرث الأرض من أسلافنا، بل نحن نقترضها من أبنائنا. ولكن من أين جاء مفهوم الاستدامة، وما معنى الاستدامة؟

تطورت الاستدامة من فكرة تنحصر في نطاق ضيق محدود يقتصر على البيئة ربما، إلى حجر الزاوية في سياسات التنمية العالمية، مما يعكس الوعي المتزايد للبشرية بعلاقات المجتمعات العالمية ببعضها البعض من طرف، ومن طرف آخر بالكوكب ككل. ولقد اجتاز هذا المفهوم مساراً طويلاً انطوى على كثير من التحولات والمنعطفات، متأثراً بالمفاهيم البيئية والاجتماعية والاقتصادية، وبلغ ذروته في اعتماده كمحور رئيسي للأمم المتحدة وأجندات التنمية العالمية.

ويكمن أساس الاستدامة في الممارسات والفلسفات القديمة التي أكدت على الانسجام بين النشاط البشري وبيئة الأرض التي تحتضن الإنسان، وعلى سبيل المثال، اعتمدت المجتمعات الزراعية التقليدية ممارسات مستدامة مثل تناوب المحاصيل وحفظها للحفاظ على خصوبة التربة وضمان الإنتاجية على المدى الطويل.

وقبل وقت طويل من ظهور مصطلح «الاستدامة»، شددت المجتمعات التقليدية على أهمية نقل المعرفة للعيش في وئام مع البيئة، وعززت التقاليد الشفوية والممارسات الثقافية والتعلم المجتمعي فهم الحفاظ على الموارد والمسؤولية بين الأجيال. وكان التعليم قوة دافعة في تطور الاستدامة.

حيث نقلها من فكرة فلسفية خام إلى إطار عالمي تتبناه الأمم المتحدة (UN). ومن خلال تزويد الأفراد والمجتمعات بالمعرفة والقيم والمهارات اللازمة لمواجهة التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية، أدى التعليم دوراً أساسياً في النهوض بأجندة الاستدامة. وبدأ التعليم الحديث في الانخراط في الاستدامة خلال الحركات البيئية في القرن العشرين.

ثم سلط مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية لعام 1972 في ستوكهولم الضوء على الحاجة إلى تثقيف المجتمعات حول العواقب البيئية للتصنيع. وكان ذلك بداية الصلة الرسمية بين التعليم والتنمية المستدامة.

قدم تقرير برونتلاند لعام 1987، مستقبلنا المشترك، الاستدامة كإطار عمل يوازن بين الاحتياجات الحالية ورفاه الأجيال القادمة، وأكد على التعليم كأداة حاسمة لتحقيق هذه الرؤية. ومن خلال تعزيز الوعي وفهم التحديات العالمية، أصبح ينظر إلى التعليم على أنه وسيلة لتمكين الأفراد من اتخاذ إجراءات مسؤولة. واستجابة لذلك، بدأت المبادرات التعليمية العالمية في دمج الاستدامة في المناهج الدراسية. وأكدت قمة الأرض لعام 1992 في ريو دي جانيرو على دور التعليم في جدول أعمال القرن الحادي والعشرين، ودعت إلى التثقيف البيئي على جميع المستويات لتعزيز الممارسات والسلوك المستدام.

لقد شكّل اعتماد أهداف التنمية المستدامة (SDGs) في عام 2015 نقطة تحول في الربط بين التعليم والاستدامة. ويعالج الهدف الرابع، «التعليم الجيد» (مع تحفظنا على هذه الترجمة ما سنبينه لاحقاً)، بشكل مباشر الحاجة إلى توفير تعليم شامل وعادل، وضمان تزويد الأفراد بالمساهمة في التنمية المستدامة.

ويركز أحد الأهداف الرئيسية في إطار هذا الهدف على «التعليم من أجل التنمية المستدامة»، الذي يعزز التفكير النقدي، وحل المشكلات، والمواطنة. وكانت الأمم المتحدة في طليعة حملة تعزيز الاستدامة من خلال التعليم. وتؤكد برامج مثل مبادرة اليونسكو للتعليم من أجل التنمية المستدامة على دمج الاستدامة في سياسات التعليم الوطنية، وتدريب المعلمين، والمشاركة المجتمعية. وتهدف هذه الجهود إلى خلق جيل من القادة والمبتكرين القادرين على قيادة التغيير المستدام.

علاوة على ذلك، يعمد هذا النهج من التعليم إلى معالجة تغير المناخ والفقر وعدم المساواة - وهي مكونات رئيسية لأهداف التنمية المستدامة. وعبر تمكين المجتمعات المهمشة بالمعرفة والمهارات، يقلل التعليم من التفاوتات ويضمن عدم تخلف أي شخص عن الركب في حركة الاستدامة.

ومع تزايد إلحاح تحديات الاستدامة، ستزداد أهمية دور التعليم القادر على استيعاب هذه التطورات في المفاهيم والممارسات، إذ يمكن للابتكارات في التكنولوجيا وعلم أصول التدريس والسياسات أن تجعل تعليم الاستدامة أكثر سهولة وتأثيراً.

وعلى سبيل المثال، توفر المنصات الرقمية والفصول الدراسية الرقمية/الإلكترونية، فضلاً عن النماذج الأكثر جدة وتطوراً كالتعليم الذكي (كما سنوضح) فرصاً أكثر لنشر المعرفة على مستوى العالم، بينما تضمن البرامج المحلية قدرة التعليم على تلبية احتياجات مجتمعية محددة.

باختصار، كان التعليم وسيظل حجر الزاوية في حركة الاستدامة. وبالعمل على تضمين مبادئ الاستدامة في أنظمة التعلم، يمكن للمجتمعات إنشاء أجيال تقدر الصالح العام الأوسع نطاقاً على المدى الطويل للناس أجمعين وللكوكب برمته.

ويسلط دمج الأمم المتحدة للتعليم في إطار الاستدامة الضوء على دوره الحاسم في تحقيق مستقبل متوازن وعادل ومستدام. وهكذا فإن التعليم يبقى فرس الرهان الرابح أمام دول العالم، ليس فقط لتخيل مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً وأشد نضارة، بل لتحقيق هذا المستقبل. وفي المقالة القادمة، نتحدث عن الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، وهو الهدف الأوثق صلة بموضوعنا في هذه السلسلة من المقالات.