عندما قررت الولايات المتحدة حظر تطبيق «تيك توك» الصيني، بحجة مخاوف تتعلق بالأمن القومي، استغرب العالم، كيف يمكن أن يحدث ذلك في بلد الحريات بأيقونتها «تمثال الحرية»؟ الأمريكيون كانت لديهم أجندة واضحة، ويبدو أنها قد تنجح بعد رفع الحظر عن الموقع الشهير بُعيد تقارير إعلامية كشفت عن احتمالية استجابة المالك الصيني لطلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ببيع حصة مؤثرة (50 %) لفرع المنصة في الولايات المتحدة إلى جهات غير صينية (أمريكية).

منصة «تيك توك» التي يشارك الناس من خلالها تسجيلاتهم المصورة، أرجعت الفضل في بوادر الانفراج إلى الرئيس ترامب. إذ يبدو أنه سيضرب عصفورين بحجر واحد، حيث يمكن للمالك الكبير (الأمريكي) أن يفرض أجندته أو يعترض على سياسات مجموعة «بايت دانس» الصينية المالكة للمنصة في كل ما من شأنه التأثير على الأمريكيين. كما يمكن أن تدخل خزينة الدولة ضريبة الصفقة التي تتراوح قيمة عملياتها في الولايات المتحدة بين 40 و50 مليار دولار.

في التفاوض لا يحل المال وحده كل مشكلاتنا، وإلا لكان للأثرياء اليد العليا في كل شيء. فهناك عوامل أخرى يمكن الاستناد إليها في التفاوض، مثل عنصر الوقت الذي قد يضيق الخناق على الخصم ما يعكس جدية توجهه. وهناك عناصر القوة السياسية والاقتصادية والتأثير الإعلامي والمخاوف الاستراتيجية وغيرها. فكلما تضافرت عوامل التأثير زادت القوة التفاوضية لدى القياديين.

لا يهمني الجانب السياسي - كعادتي - لكن ما يستحق الاهتمام هو كيف حاول ترامب إقناع خصمه بخيارات تبدو صعبة لكنها قابلة للتطبيق. فمثلما السياسة هي فن الممكن، فإن في التفاوض شيئاً من ذلك. أما الخيارات التعجيزية أو غير القابلة للتطبيق فهي تستخدم كورقة ضغط، ليضطر خصمنا إلى قبول أفضل الخيارات السيئة.

في علم التفاوض ودراساته تبين أن المنفعة المتبادلة win-win أكثر استدامة وتأثيراً، لكنها ليست دائماً خياراً متاحاً للجميع. وهذا ما دفع الاتحاد الأوروبي «بجلالة قدره» إلى اعتزامه طرح مقترح على الرئيس ترامب مفاده أن تزيد أوروبا الاستثمار في مجال الدفاع مقابل امتناعه عن شن حرب تجارية على «القارة العجوز»، وفق ما أعلنته المفوضية الأوروبية. الأوروبيون يقولون إنهم لا يستطيعون خوض حرب تجارية، وفي الوقت ذاته يبنون دفاعات أوروبية كتلك التي تطالبهم بها أمريك، حيث إن بعض الموازنات الوطنية الأوروبية لا يمكنها رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3 في المئة من ناتجها المحلي.

الأوروبيون لم يلجؤوا إلى «العناد» واختاروا أسلوباً أكثر مباشرة في تفاوضهم، حيث ربطوا تحقيق الهدف المرجو بعدم شن ترامب حرب تجارية ضدهم للخروج بمكسب أو حماية لاقتصاداتهم.

في عالم التفاوض، يجد البعض نفسه مضطراً للقبول بشروط الخصم. حدث ذلك في مجالات عدة. في الرياضة نتذكر نجاح نادي باريس سان جيرمان في إقناع نيمار بالانضمام إلى صفوفه بعد كسر الشرط الجزائي مع برشلونة عام 2017. وفي الاقتصاد صفقة الاستحواذ على «تويتر» (X) بقيادة إيلون ماسك بالرغم من معارضة كبار المساهمين في بادئ الأمر. وفي الصحة نجحت البلدان النامية في التفاوض مع كبريات شركات الأدوية لتأمين اللقاحات بأسعار معقولة خلال جائحة كورونا.

من أبجديات التفاوض التي نستقيها من هذه الأحداث، أهمية الوقت كعامل ضغط، واستغلال نقاط ضعف الخصم لتوسيع نطاق المناورة، بالإضافة إلى المرونة في تقديم تنازلات مدروسة أملاً في جني مكاسب على المدى الطويل.

التفاوض أبعد ما يكون عن استعراض القوة، وأقرب إلى تحويل التحديات إلى فرص سانحة، والضغوطات إلى مكاسب أكثر استدامة.