منذ أن تأسست القنوات التلفزيونية الأرضية في العالم العربي، تضمّنت فقراتها برامج المسابقات بصورتها المبسطة، بهدف تثقيف المشاهد والترفيه عنه، وإسعاده من خلال بعض الجوائز النقدية أو العينية.

غير أن هذه البرامج أخذت منحى آخر مع ظهور القنوات الفضائية وتعددها وتنافسها على جذب أكبر قدر من المشاهدة، خصوصاً بعد أن اقتحمت الدعاية شاشاتها، فصارت غالبية برامج المسابقات تهدف إلى الربح السريع، دون الاهتمام بالشكل والمضمون، وبالتالي تحولت أسئلتها إلى فوازير سخيفة.

ومع انتشار الهواتف النقالة ازداد الوضع سوءاً فصارت المسابقات التلفزيونية عبارة عن سؤال ومعه خيارات الإجابة وتستقبل إجابته الصحيحة عبر الهاتف، محولة المشاهد المسكين إلى ضحية لجشع شركات الاتصالات التي عادة ما تتقاسم الأرباح مع القناة صاحبة البرنامج.

في الماضي وحتى مطلع تسعينات القرن العشرين لم يكن هذا هو حال برامج المسابقات، فقد كانت هناك جدية في انتقاء الأسئلة وصرامة في اختيار المتسابقين، وتنويع في فقراتها وحرص على تفادي الغش والمجاملة والفبركة، ناهيك عن حرص مماثل لجهة إناطة مهمة التقديم وإعداد المحتوى لمذيعين من ذوي الثقافة الواسعة، تفادياً للأخطاء المعلوماتية من جهة، ومنعاً لتوجيه أسئلة سطحية تستهين بعقلية المشاهد أو لا ترتقي بوعيه وثقافته من جهة أخرى.

صادفت، وأنا أعد هذه المادة، مصادر عدة تزعم بأن أول برنامج مسابقات تلفزيوني هو ذلك الذي قدمه المذيع الفلسطيني شريف العلمي من تلفزيون الكويت في مطلع الستينات الميلادية بعنوان «سين جيم»، لكن هذه المعلومة تنقصها الدقة.

ذلك أن أول برنامج من هذا النوع هو «المباراة الثقافية بين المناطق الثلاث»، الذي كان يعده ويقدمه المذيع السعودي فهمي يوسف بصراوي منذ الخمسينات وحتى أواخر الستينات، ضمن برامج محطة تلفزيون أرامكو من الظهران (بدأ البث في 16 سبتمبر 1957).

كان بصراوي يختار لبرنامجه ثلاثة أشخاص بالقرعة من ضمن المئات ممن راسلوه للمشاركة ليمثلوا مدن النفط السعودية الثلاث (الظهران وبقيق ورأس تنورة)، ويجيبوا عن مجموعة من الأسئلة متفاوتة الصعوبة بحسب جوائزها النقدية التي كانت قيمة أدناها 50 ريالاً وقيمة أعلاها 200 ريال.

وعادة ما كان الفائز بأعلى مبلغ يستدعى للمشاركة في الحلقة التالية لينافس شخصين آخرين إلى أن يفوز عليه متسابق بمبلغ أعلى فيودع المسابقة، وهكذا.

هذا علماً بأن هذه المسابقة الثقافية كانت طوال فترة بثها جادة وبعيدة عن الإسفاف والأخطاء وتمرير الأجوبة للمتسابق أو منحه عدة خيارات للإجابة أو إعطائه وقتاً إضافياً فوق الوقت المقرر، وغير ذلك مما نلاحظه في برامج المسابقات هذه الأيام.

غير أن هذا لا يلغي حقيقة أن شريف العلمي، بما أوتي من علم وخبرة واطلاع على البرامج الشبيهة في التلفزيونات الغربية، أحدث ثورة في هذه النوعية من البرامج من خلال تنويع فقراتها وأسئلتها وديكوراتها وجوائزها، ناهيك عن إشتراك الجمهور والفرق الموسيقية في مجرياتها، فخلصها من الجمود والرتم الواحد واعتلى بها إلى مزيج من التثقيف والترفيه والتوعيه والمرح والإثارة والمتعة، بحيث صار برنامجه «سين جيم» أيقونة برامج المسابقات العربية المتلفزة وأكثرها مشاهدة وخلوداً في الذاكرة، خصوصاً أنه بعد أن ذاع صيته واشتهر في الكويت انتقل ببرنامجه إلى تلفزيونات دبي وأبوظبي وقطر، كما تم بث حلقاته من تلفزيونات الأردن ولبنان والعراق وعُمان والبحرين والجزائر والسودان وليبيا والمغرب والشارقة وعجمان وشبكة MBC وشبكة راديو وتلفزيون العرب.

بل راح آخرون يقلدون برنامجه، وعلى رأسهم صاحب الثقافة الموسوعية والحضور الطاغي ولازمة «يا سلام عليك» المذيع الأردني الدكتور عمر الخطيب، الذي اشتهر بتقديم برنامج «بنك المعلومات» من راديو وتلفزيون العرب وتلفزيون المملكة العربية السعودية.

وتبع العلمي والخطيب آخرون كثر، كل يحاول أن يضفي على برنامجه أسلوبه الخاص في النطق والصوت والحركة والإيماءة والطرفة كي يجعله متميزاً عن غيره. من هؤلاء المذيعان غالب كامل وماجد الشبل في السعودية، وفوزي الخميس في قطر، وخالد الحربان ومحمد الويس في الكويت، وعبدالله إسماعيل وأحمد عبدالله في الإمارات.

لكل هذه الأسباب مجتمعة، ارتأينا أن نسلط الضوء في الأسطر الآتية على حياة شريف العلمي ومسيرته العلمية والوظيفية كونه أحد العرب الذين ساهموا، من خلال عملهم في الإعلام الخليجي المسموع والمرئي، في إنتاج وإعداد وتقديم أعمال مفيدة ومبتكرة أسعدت الجمهور وارتقت بوعيه وثقافته لسنوات طويلة.

شريف رمضان العلمي مذيع ومؤلف ومقدم برامج، فلسطيني المولد، أردني الجنسية، ذو أصول مغربية.

كان ميلاده بمدينة يافا في 3 يناير 1931 لعائلة ترجع أصولها إلى «جبل العلم» في أقصى الشمال المغربي بالقرب من مدينة تطوان.

وقد جاء في الصفحة 222 من كتاب «رجال من فلسطين» لمؤلفه عجاج نويهض (طبعة 1/ سنة 1981) ما مفاده أن جدود آل العلمي نزحوا إلى أرض فلسطين، واستقروا بها زمن حكم المماليك، في أعقاب طرد العرب من الأندلس في القرن الـ 14 الميلادي.

درس المرحلة الابتدائية وجزءاً من الثانوية في مسقط رأسه بفلسطين، ثم أكملها في لبنان الذي آوت عائلته بعد نكبة 1948.

وبعد تخرجه في الثانوية التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الإدارة العامة، فتخرج حاملاً بكالوريوسها سنة 1953، وبهذه الصفة كان المفترض أن يعمل في المجال الاقتصادي أو المصرفي، غير أن الرياح أخذته للعمل بإذاعة الشرق الأدنى.

والمعروف أن هذه الإذاعة تأسست سنة 1943 بمدينة جنين، ثم تم نقلها إلى يافا فإلى القدس سنة 1947، وكانت تابعة لوزارة الخارجية البريطانية، لكن كادرها كان عربياً.

وحينما بدأ الاقتتال في فلسطين سنة 1948 انتقلت الإذاعة مع معظم كوادرها العربية إلى ليماسول في قبرص للعمل من هناك، بينما سافر بعض رموزها العرب إلى القاهرة وبيروت لافتتاح وإدارة مكاتب للإذاعة في هاتين العاصمتين.

في حواره مع برنامج «شبكة التلفزيون» من تلفزيون الكويت، روى العلمي قصة التحاقه بهذه الإذاعة التي غيرت مجرى حياته، فقال ما مفاده أنه أثناء دراسته الجامعية في بيروت كان طالباً مسؤولاً عن الأنشطة الاجتماعية والترفيهية من خلال «جمعية العروة الوثقى» الطلابية، وكان يتردد إلى مكتب إذاعة الشرق الأدنى بحكم علاقته مع بعض موظفيها الفلسطينيين من أجل مساعدته على إقامة فعاليات فنية على مسرح الجامعة الأمريكية، فتعرف إلى عبدالمجيد أبولبن الذي كان يقدم آنذاك برنامج مسابقات بعنوان «فكر واربح»، فكلفه الأخير بإعداد مجموعة من الأسئلة وأجوبتها مقابل ليرة لبنانية واحدة عن كل سؤال، فسعد العلمي بهذا الدخل الإضافي وراح يجتهد في عمله.

ثم جاءت فترة، يبدو أن أبولبن انشغل فيها بأعمال أخرى، فطلب منه أن يحل مكانه في تقديم «فكر واربح».

ولأنه نجح في المهمة تعاقدت معه الإذاعة لتقديم البرنامج بعد أن يتخرج من الجامعة.

ما حدث بعد تخرجه هو أن «الشرق الأدنى» وظفته ثم نقلته إلى مقرها الرئيس في قبرص للتدريب، حيث تعلم ترجمة الأخبار وقراءة نشراتها، وظل هكذا فترة من الزمن إلى أن شعر بالحنين إلى بيروت معطوفاً على الضجر مما يقوم به من أعمال روتينية جامدة لا تغيير فيها ولا تشويق، فقدم استقالته كي يعود إلى لبنان ويمتهن عملاً يتناسب مع تخصصه الجامعي، لكن الإذاعة رفضت الاستقالة واقنعته بمواصلة العمل معها من مكتبها في بيروت كإغراء له، فوافق على العرض، وظل يعمل حتى عام 1956.

في عام 1956 كان العلمي ضمن العرب الذين تقدموا باستقالة جماعية من وظائفهم بإذاعة الشرق الأدنى.

وهكذا ترك عمله وسافر كغيره من فلسطينيي الشتات إلى السعودية بحثاً عن عمل مناسب، فكان أن وجد وظيفة بالإذاعة السعودية في جدة، ولاحقاً راح يبحث عن وظيفة جديدة إلى أن قاده بحثه إلى فرع بنك القاهرة المصري بجدة الذي وظفه كمساعد للمدير، وابتعثه إلى مصر لمدة قصيرة كي يتدرب على الأعمال المصرفية.

عاد العلمي من مصر وقد عمل عدة سنوات في بنك القاهرة بجدة، قبل أن يترك العمل سنة 1959 حينما علم بتواجد وفد كويتي في جدة لأغراض التعاقد مع الإذاعيين الفلسطينيين القدامى من أجل المساهمة في تطوير إذاعة الكويت.

وبالفعل تعاقدت الحكومة الكويتية معه ومع عدد من زملائه من أمثال أحمد عبدالعال وأحمد سالم وأحمد المهتدي، وسافر إلى الكويت سنة 1960.

شكل هذا الحدث نقلة مفصلية في حياته، حيث بدأ عمله بإذاعة الكويت أولاً في وظيفة نائب عام مدير البرامج، وقدم من خلالها برنامجه الثقافي «فكر وامرح» الذي نال استحسان الجمهور وحظي بنجاح واسع.

وبعد استقلال الكويت سنة 1961 وتدشين محطتها التلفزيونية الرسمية، طلب منه مدير المحطة آنذاك الراحل خالد المسعود الفهيد تقديم برنامجه على الشاشة الفضية خلال أول دورة تلفزيونية رمضانية، فقام بتطوير فكرة البرنامج لتلائم الشاشة، وغير اسمه إلى «سين جيم» وبدأ تصويره وبثه ابتداء من عام 1962.

وبهذا عرف الجمهور الكويتي العلمي كصوت وصورة وحركة، من بعد أن عرفه كصوت فقط، وراح يردد اسمه ويتحدث عن برنامجه الثقافي المختلف شكلاً ومضموناً، وهو ما حوله سريعاً إلى علم من أعلام البرامج التلفزيونية داخل الكويت وفي محيطها الخليجي والعربي، لا سيما أن الرجل حرص دوماً على تقديم المعلومة الثقافية والمعلومة العامة في إطار متجدد ومبتكر وغير تقليدي مع إضفاء عناصر التشويق كالموسيقى والمشاهد الدرامية والألعاب السحرية وإشراك الفنانين والمشاهير وغيرها.

ومما يجدر بنا ذكره أنه إبان عمله في تلفزيون الكويت تلقى في الفترة ما بين عامي 1962 و 1964 تدريباً على الأعمال التنلفزيونية في لندن، وهو ما مكنه من شغل وظيفة «مدير إدارة البرامج المنوعة» في التلفزيون الكويتي.

أغرته النجاحات التي حققها من وراء «سين جيم» بإنتاج برامج مماثلة بأفكار أخرى، تباعاً من 30 حلقة لكل منها مثل: «كيف وأخواتها»، «مختصر مفيد»، «من الرأس إلى القدم» و«سألوني».

كما قام بجمع مواد برامجه في عشرين جزءاً من كتاب حمل اسم «سين جيم»، وهو كتاب معلومات عامة متنوعة لقي رواجاً كبيراً في العالم العربي واعتمد عليه الكثيرون من معدي البرامج التلفزيونية والإذاعية. ظل العلمي يعمل في الكويت من عام 1960 إلى عام 1967، حينما غادرها إلى بيروت للإقامة والاستقرار مع شريكة حياته هدى مصطفى الشماع، التي تعرف إليها زمن دراستها في كلية بيروت الجامعية للبنات (BCW)، وتزوجها عام 1958 وأنجبت له أولاده الثلاثة (ربى وحسن ودانة).

غير أن الحرب الأهلية اللبنانية أجبرته في عام 1975 على مغادرة بيروت، فلم يجد مكاناً يحتضنه سوى الكويت التي رحبت بعودته من بعد غياب، وأتاحت له فرص العمل على أرضها مجدداً، فقام بتأسيس مؤسسته الخاصة لإنتاج البرامج التلفزيونية، وبالتزامن راح يلبي دعوات محطات التلفزة في الدول الخليجية المجاورة لتقديم حلقات ودورات من برنامجه الأثير «سين جيم»، كما أنه عاد أيضاً إلى شاشة تلفزيون الكويت فقدم من خلالها برنامج مسابقات جديد بعنوان «x33» المقتبس فكرته من برنامج «هوليوود سكوير» الأمريكي، وهو برنامج بدأ بثه في أواخر الثمانينات ولم يستمر طويلاً بسبب حرب الخليج الثانية.

بُعيد الاجتياح العراقي لدولة الكويت عام 1990، غادرها العلمي إلى الأردن، حيث أقام في عمـان، متوقفاً عن الإنتاج بسبب صعوبات التوزيع على حد قوله في لقاء أجرته معه جريدة «الدستور» الأردنية.

وفي عمان مرت عليه فترة عصيبة جراء إصابة رفيقة عمره وأم أولاده بمرض السرطان، فظل بجانبها إلى أن فارقت الحياة عام 2000، ليلحق بها بعد ثمانية أعوام، حيث رحل عن دنيانا في 3 يناير 2008.