شاهد العالم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحظة أدائه اليمين الدستورية في مشهد تقليدي لحد كبير. ومع ذلك، فإنه يكشف عن العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة بأمريكا ويسهم في فهم الدور المرتقب الذي سيلعبه تيار القومية المسيحية في عهد ترامب.

أما التقليدي في المشهد، فهو أن الرئيس المنتخب عادة ما يضع يده على الكتاب المقدس الذي تحمله قرينته ويكرر خلف رئيس المحكمة العليا القسم المنصوص عليه دستورياً. وترامب أدى اليمين دون أن يضع يده على الكتاب المقدس. لكن ذلك لم يؤثر على دستورية أداء اليمين.

فقد لا يعلم الكثيرون أن الدستور لا ينص على وضع الرئيس يده على الكتاب المقدس ولا على دور لرئيس المحكمة العليا أو لقرينة الرئيس. أكثر من ذلك، فإن عبارة «فليساعدني الرب» التي طالما ختم بها كل رئيس القسم ليست ضمن نص اليمين الدستوري. فتلك كلها تقاليد شكلتها ظاهرة تضرب بجذورها في عمق الثقافة السياسية. فالولايات المتحدة دولة فيها فصل بين الدين والدولة، دون الفصل بين الدين والسياسة.

أما الظاهرة، فتعرف «بالدين المدني»، وتعتبرها كاتبة السطور أسطورة اخترعتها أمريكا عن نشأتها. ففي الأسطورة، يشار للمهاجرين الأوائل ممن أتوا من أوروبا باعتبارهم، وبلا استثناء، هربوا من الاضطهاد الديني بحثاً عن أرض جديدة يقيمون فيها «مملكة الله على الأرض» وينفذون فيها أحكامه فيكافئهم الرب. لذلك فالمهاجرون، في رحلتهم عبر المحيط الأطلنطي، بمثابة «الحجيج»، والأرض «الجديدة» هي «أرض الميعاد».

والأسطورة طالما غذت نفسها بنفسها. فأي نجاح تحققه أمريكا لا بدّ أنه دليل على «مباركة الرب لها». ولأن الرب يباركها فهي «أمة استثنائية» لا ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها. وهي أمة «خيرة»، ومن يقف في طريقها أشرار بالضرورة وجب إخضاعهم أو حتى القضاء عليهم، سواء كانوا داخليين، مثل السكان الأصليين أو خارجيين كالدول الأخرى.

وعلى ذلك، تخلط الأسطورة الديني بالسياسي، وتربط المسيحية تحديداً ربطاً وثيقاً بأمريكا «كأمة». وهي أسطورة مسؤولة عن بروز تيار «القومية المسيحية» منذ فترة مبكرة، فبات يصعد أحياناً ويأفل أحياناً أخرى.

وهو تيار لا علاقة له بالمسيحية كدين وعقيدة، وإنما تيار سياسي بالدرجة الأولى، وأهدافه سياسية. وهو يخلط السياسي بالديني ويعرف الهوية الأمريكية على أساس ديني. فأمريكا عنده «أمة مسيحية»، الأمر الذي يستبعد بالضرورة غير المسيحيين.

ثم إن الأمريكي «المسيحي» هو من جاء أجداده من أوروبا، وخصوصاً الغربية، أي أنه أبيض، مما يستبعد طبعاً غير البيض. بعبارة أخرى، فإن تيار «القومية المسيحية» هو في الحقيقة تيار «القومية المسيحية البيضاء»، مما يستبعد من تعريف الأمريكي المهاجرين غير البيض ممن تجنسوا، أي لم يولدوا على الأرض الأمريكية.

بل ويستبعد حتى غير البيض وغير المسيحيين ممن ولدوا على الأرض الأمريكية، بما يخالف ما ينص عليه الدستور. لذلك، فلا غرابة في سعى ترامب لإلغاء ذلك الحق الدستوري.

والحقيقة أن أغلبية الأمريكيين لا يؤمنون بأفكار هذا التيار، ولكنهم يؤمنون بفكرة أو أخرى من أفكاره دون غيرها. فمنهم مثلاً من يؤمن بأن أمريكا «أمة مسيحية». ومنهم من يؤمن بأنها «أمة استثنائية»، بينما يشعر الكثير من البيض بقلق متزايد إزاء التحول السكاني الذي سوف سيجعلهم أقلية في غضون عقود قليلة.

والإيمان بفكرة هنا أو هناك من أفكار «القومية المسيحية البيضاء» هو ما يمنح التيار القوة، خصوصاً وقت الأزمات. فالمجتمع المأزوم يبحث عادة عن كبش فداء، وغالباً ما يميل لنظرية المؤامرة. والمجتمع الأمريكي يعيش اليوم أزمات كبرى ومتعددة.

بعبارة أخرى، رغم أن تيار القومية المسيحية لا يتعدى المؤمنون بأفكاره 35 % على أفضل تقدير، وفق كل الاستطلاعات، فإن تأثيره يفوق حجمه وقت الأزمات، وحينئذ يسعى السياسيون لاجتذاب أنصاره. وترامب أكثر من برع في اجتذاب هذا التيار. فخطابه ينضح بأفكاره.

فرغم عدائه الصريح للهجرة مثلاً، قال ترامب إن لا مانع عنده من هجرة النرويجيين (البيض طبعاً) لبلاده. وترامب يؤكد دوماً أن المسيحية «محاصرة ومضطهدة» بأمريكا وتعهد بالدفاع عنها ضد اليسار والليبراليين. باختصار، لنا أن نتوقع صعوداً لهذا التيار في فترة حكم ترامب الثانية.