أعرف البلاغة بأنها زي جمالي من أزياء الكلام يسعى للتأثير على السامع أو القارئ.
والبلاغة تكون نثراً وتكون شعراً، بل وتكون في اللغة المحكية أيضاً. فالكلمات هنا تلبس رداء غير ردائها الأصلي، ومعاني مختلفة عن معانيها المطابقة للأشياء.
حتى يصير لكل كلمة عدد كبير من الأزياء، وأزياء الكلمة إذاً هي جملة المعاني التي منحها البشر للكلمة من منطلق بلاغي. حتى ليمكن القول إن البلاغة هي التي وهبت الكلمات من المعاني المختلفة عن معناها الأصلي، والوعي الشعبي هو المبدع لهذا كما هو الشاعر والأديب كما أشرنا.
فكلمة حجر كلمة حسية تدل عل شيء موجود وجوداً واقعياً -مادياً. إنه جسم صلب لا يتغير ولا يتبدل إلا بعامل خارجي بفضل الحاجة لاستخدامه. ولكن لو قلت لإنسان ما إنك حجر، فمعنى الحجر هنا بأن هذا الإنسان قاسي القلب، أو لا يفكر، أو صلب، لقد تحول الحجر من مفهوم حسي عام مجرد إلى مفهوم نظري خاص من دون أن يفقد أصله وفصله.
وعندما تخاطب الأم طفلها أو ابنها يا قلبي أو يا روحي فهي تؤكد معنى الحب ببلاغتها البسيطة.
وقس على ذلك مفهوم الكرسي، فالكرسي مفهوم حسي يدل على أداة للجلوس، لكن الكرسي لبس أزياء متعددة حتى نُسي أصله وفصله. فعندما تقول عن شخص إنه مات من أجل الكرسي، فإن الكرسي هنا صار مفهوماً مجرداً نظرياً يشير إلى السلطة بمعزل عن درجاتها. وقس على ذلك.
ولكن من أسوأ أنواع البلاغة هي البلاغة الأيديولوجية، فهي كذب منمق مزخرف يلغي العلاقة بين اللغة والحقيقة. إنها أقوال وليست كلاماً.
فلقد ميزت العرب بين القول والكلام، بأن القول قد يكون مفيداً وقد لا يكون. أما الكلام فهو المفيد. والكلام المفيد هو الكلام المعبر عن الواقع والحقيقة.
فالبلاغة الأيديولوجية تتقصد إخفاء القبح عبر بلاغة تستر الواقع الحقيقي. والبلاغة الأيديولوجية هنا لا علاقة لها بالأدب بكل صنوفه والخلق الفني، بل هي قول يتوسل البلاغة بدافع المصلحة. فأن تصف شخصاً فاسداً (نبع الرحمة والحب على الفقراء)، فأنت تخفي القبح بدافع أيديولوجي.
وأن تتحدث عن هزيمة بأنها انتصار وتصف الانتصار ببلاغة كقولك (لقد كان هذا النصر فجراً جديداً وشمساً أشرقت على الوطن)، فهذه بلاغة أيديولوجية لإخفاء هزيمة مدمرة. وقس على ذلك.
وسائلٍ يسأل: ألا يمكن للشعر أن ينحدر إلى درجة البلاغة الأيديولوجية؟ الجواب: نعم.
فأن يصف شاعر طاغية بأنه بطل الحرية، فهذا مديح تملق، والتملق شكل من أشكال الكذب، أو مديح بدافع فضلات سلطة أو جاه، كما فعل المتنبي بمدحه لكافور، وحين لم يجد من كافور ما كان يرجوه هجاه هجاءً لا مثيل له في الهجاء العربي.
هل تنطوي البلاغة الأيديولوجية على قيمة جمالية؟ الجواب: طبعاً إذا صدرت عن شاعر فحل، فمن منا لم يطرب لقصيدة المتنبي التي مطلعها
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
والتي جاء فيها:
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الَّذي كُنتُ تائِقاً
إِلَيهِ وَذا الوَقتُ الَّذي كُنتُ راجِيا
أَبا كُلِّ طيبٍ لا أَبا المِسكِ وَحدَهُ
وَكُلَّ سَحابٍ لا أَخصُّ الغَوادِيا
يَدِلُّ بِمَعنىً واحِدٍ كُلَّ فاخِرٍ
وَقَد جَمَعَ الرَحمَنُ فيكَ المَعانِيا
إِذا كَسَبَ الناسُ المَعالِيَ بِالنَّدى
فَإِنَّكَ تُعطي في نَداكَ المَعالِيا
وبعد هذا المديح الجميل جاء الهجاء المقذع للممدوح بعد أن أخفق في نيل ما يريد منه:
إني نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ
عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفساً مِن نُفوسِهِمُ
إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ
لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ
إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ