جدعون راشمان
كنت أشاهد خطاب تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هاتفي المحمول بينما كنت عالقاً في زحام دافوس السويسرية، في حضوري المنتدى الاقتصادي العالمي. وكانت تجلس بجانبي في الحافلة مديرة تنفيذية أوروبية، بدا عليها الكثير من الضيق والاستياء، ولذلك فقد غطت وجهها وقالت: «لا أصدق أن هذا يحدث».
على النقيض، جاءت ردود أفعال المشاركين من الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا مغايرة تماماً، فالكثيرون من دول ما يُعرف الآن بـ«الجنوب العالمي» يرون في رئاسة ترامب فرصة إيجابية لبلدانهم، بل إن استطلاعات الرأي الأخيرة تكشف أن التأييد لترامب في دول كبرى مثل الهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل لا يقتصر على النخب المشاركة في منتدى دافوس، بل يمتد إلى قطاعات أوسع من المجتمع أيضاً. وخارج العالم الغربي، ينظر الناس إلى الرئيس الأمريكي شخصيةً براجماتية تتعامل بمنطق المصالح المتبادلة، وتدعم قطاع الأعمال، وتسعى لتحقيق السلام. ولكن ما الذي قد يثير القلق في ذلك؟
الواقع يقول: الكثير يثير القلق، فإذا تجاوزنا الصورة السطحية، نجد أن هناك العديد من الأسباب التي يجب أن تجعل الجنوب العالمي يشعر بالقلق تجاه أمريكا في عهد ترامب، فالرئيس الأمريكي يدفع فعلياً نحو التخلي عن النظام الدولي القائم على القواعد والقوانين الدولية، والذي وفر استقراراً وأسواقاً مفتوحة أسهمت في ازدهار الصين والهند وجزء كبير من جنوب شرقي آسيا على مدى العقود الثلاثة الماضية.
وقد يبدو التخلي عن القواعد والانتقال إلى عالم قائم على المصالح التجارية فقط فكرة بسيطة ومباشرة، ولكن عالماً بلا قواعد هو عالم تصبح فيه القوة وسيلة لاستغلال الضعفاء، من دون أي قوانين أو مبادئ تحد من هذا الاستغلال. ومعظم دول الجنوب العالمي ستكون عرضة لهذا الخطر.
وقد بدأت دول مثل بنما وكولومبيا والمكسيك تدرك مدى صعوبة العيش في عالم يسير وفق نهج ترامب. فنحو 80% من صادرات المكسيك تعتمد على السوق الأمريكية، وإذا نفذ ترامب تهديده بفرض تعريفات جمركية، فقد يدفع ذلك بالمكسيك إلى ركود اقتصادي مدمر.
ولا تقف المكسيك وحدها في مواجهة هذه التحديات، فقد وجه ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية إلى معظم القوى التجارية الكبرى في العالم. ويعتقد بعضهم أن هذه التهديدات لا تستدعي القلق لأنها جزء من نهجه البراجماتي وتمهد لعقد صفقات جديدة، ولكن هذا الاعتقاد يتجاهل احتياجات قطاع الأعمال، فالشركات الدولية تعتمد على الاستقرار ونظم قانونية واضحة لضمان الثقة باتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأمد عبر الحدود. ومع ذلك، تشير الوقائع إلى أن ترامب، حتى بعد إبرام الاتفاقيات، لا يلتزم بها دائماً. وعلى سبيل المثال، في ولايته الأولى، تفاوضت الولايات المتحدة على اتفاقية تجارية جديدة مع جارتيها كندا والمكسيك - عُرفت باسم اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا - ولكنه يعود للمطالبة بتنازلات جديدة.
وحينما تصبح جميع الاتفاقيات الدولية عرضة للإلغاء في أي وقت، سواء بذريعة شكوى جديدة أو لاستغلال تغير في موازين القوى، فهذا يعني أنه لا يوجد اتفاقية تجارية يمكن الاعتماد عليها. وقد عبر عن هذا الوضع بدقة أحد محافظي البنوك المركزية السابقين في منتدى دافوس بقوله: «النتيجة المنطقية لهذا الوضع أن التجارة الآمنة الوحيدة ستكون داخل حدود بلدك فقط».
لقد بدأنا نشهد الوجه الحقيقي للولايات المتحدة التي تعلن بكل صراحة وفخر أنها لا تهتم بالعالم الخارجي إلا بقدر ما يحقق مصالحها المباشرة. بل لقد أعلن وزير الخارجية ماركو روبيو تعليق معظم برامج المساعدات الأمريكية الخارجية، وأنه سيتم فقط تجديد البرامج التي تعود بالنفع المباشر على الأمريكيين. وهذا التوجه قد يؤدي إلى إنهاء برامج حيوية مثل «خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز» (بيبفار) التي قدمت الأدوية لمكافحة مرض الإيدز وأنقذت ملايين الأرواح في أنحاء العالم.
في الوقت ذاته، بدا أن ترامب يدعم بشكل غير مباشر فكرة التهجير في غزة، وهو أمر سيكون كارثياً على الفلسطينيين الذين قد يفقدون وطنهم، ويثير قلقاً كبيراً لدى كل من الأردن ومصر اللتين قد تتحملان عبء استقبال اللاجئين الجدد.
ومن المؤكد أن الولايات المتحدة لن تبادر طوعاً بإعادة توطين أي لاجئ. النقش المحفور على تمثال الحرية يعلن بفخر: أعطني متعبيك، وفقراءك، وجماهيرك التي تتوق إلى التنفس بحرية، والنفايات البائسة على شاطئك المزدحم. فهذه الروح الإنسانية لم تعد موجودة في أمريكا ترامب، فمؤيدو الرئيس يرفعون لافتات تطالب بـ«الترحيل الجماعي الآن». والدليل العملي على ذلك هو تعليق برامج إعادة توطين اللاجئين في الولايات المتحدة.
وبينما قد يرى كثير من الأمريكيين أن تقليل الهجرة القانونية من البلدان التي وصفها ترامب بعبارة عنصرية مهينة بأنها «دول حثالة» سياسة جيدة، فإن هذا التوجه يمثل ضربة قاصمة للطبقة الوسطى في دول الجنوب العالمي. فهؤلاء سيجدون أن الحصول على التأشيرات المرغوب فيها للمهاجرين ذوي المهارات أو الطلاب الراغبين في الدراسة أصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
وقد يقول بعضهم إنه يمكن التغاضي عن كل المخاوف المتعلقة بسياسات ترامب في مجالات التجارة والمساعدات والهجرة إذا نجح في تحقيق وعده بإنهاء الحروب في أنحاء العالم ولكن المشكلة أن طموح الرئيس الأمريكي ليكون صانع سلام عالمي يتعارض مع طموحه المعلن لتوسيع الأراضي الأمريكية.
وإذا كان هناك مبدأ واحد تجمع عليه دول الجنوب العالمي في رفضه، فهو الإمبريالية والاستعمار ولذلك، إذا اتضح أن ترامب جاد في تنفيذ خططه لتوسيع حدود أمريكا، فمن المرجح أن يتلاشى سريعاً ذلك التأييد الذي يحظى به في هذه الدول.