هل تُعيد «ديب سيك» الصينية رسم ملامح الأسواق العالمية؟

روبرت أرمسترونغ - إيدن رايتر

شهد عالم المال والأعمال في العقود الأربعة الماضية تحولاً جذرياً مع ظهور نموذج «الفائز يأخذ كل شيء». وعبر هذا النموذج، تهيمن شركة واحدة على السوق وتجني معظم الأرباح بفضل «تأثيرات الشبكة» والعوائد المتزايدة مع توسع الأعمال.

وتتجلى هذه الظاهرة في شركات مثل «مايكروسوفت» في برمجيات الحاسوب، و«ألفابيت» (غوغل) في البحث في الإنترنت، و«أمازون» في التجارة الإلكترونية، و«ميتا» (فيسبوك سابقاً) في وسائط التواصل الاجتماعي، و«آبل» في الأجهزة الإلكترونية الفاخرة. وقد اعتمد نجاح المستثمرين على قدرتهم على تحديد هذه الشركات المهيمنة مبكراً والاستثمار فيها في الوقت المناسب.

في ظل هيمنة نموذج «الفائز يأخذ كل شيء» على قطاع التكنولوجيا، توقع المراقبون أن يسير الذكاء الاصطناعي على النهج ذاته. إلا أن تحركات الأسواق المالية عكست تغيراً في هذه النظرة. ولم تكن هذه التحركات نتيجة مفاجأة ما أو حالة من الذعر أو انفجار فقاعة مالية، بل كانت تعديلاً في الأسعار يبرز تزايد احتمالات أن يكون سوق الذكاء الاصطناعي أكثر تنافسية، وليس حكراً على شركة بعينها.

ويمكن مقارنة ثورة الذكاء الاصطناعي باختراعات مثل السيارة والطائرة. ورغم أن هذه الاختراعات أدت إلى ظهور شركات عملاقة تحقق أرباحاً مستدامة مثل فورد وبوينغ، إلا أن المنافسة القوية في هذه القطاعات ضمنت توزيع المنافع على نطاق أوسع، واستفاد المستهلكون من تنوع المنتجات وانخفاض الأسعار، بدلاً من تركز الفوائد في أيدي مساهمي شركة واحدة. وهذا السيناريو يبدو أكثر احتمالاً في مجال الذكاء الاصطناعي.

و الآن، أطلقت شركة «ديب سيك» الصينية نموذجاً للذكاء الاصطناعي يُسمى (R1)، يضاهي في قدراته أفضل النماذج المطورة من قبل شركات مثل «أوبن إيه آي»، و«أنثروبيك»، و«ميتا»، ولكن بتكلفة أقل بكثير وباستخدام معالجات رسومية أقل تطوراً من تلك المستخدمة في أحدث النماذج. كما كشفت الشركة عن معلومات تقنية كافية تسمح للمطورين والشركات الأخرى بتشغيل النموذج في أجهزتهم الخاصة، مع الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة التي تمنع إعادة تطوير النموذج نفسه.

ويوجه هذا التطور 3 ضربات لنظرية «الفائز يأخذ كل شيء» في مجال الذكاء الاصطناعي، فلم تعد رقائق وبرمجيات شركة «إنفيديا» المتطورة شرطاً ضرورياً لتحقيق أفضل النتائج، ولم يعد تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة حكراً على الشركات التكنولوجية العملاقة التي تمتلك موارد مالية ضخمة. وأخيراً، لم تعد الشركات بحاجة إلى تطوير نماذجها الخاصة لتقديم تطبيقات ذكاء اصطناعي متميزة، إذ يمكنها الاستفادة من النماذج المتاحة.

وشهد سهم شركة «إنفيديا» ارتفاعاً صاروخياً في العامين الماضيين، وذلك بفضل تفوقها التقني الساحق في مجال معالجات الذكاء الاصطناعي. ولكن نجاح شركة «ديب سيك» في تطوير نموذج (R1) باستخدام رقائق إنفيديا القديمة الأبطأ - وهي الرقائق التي تسمح العقوبات الأمريكية بتصديرها إلى الصين - يشير إلى أن المنافسة في سوق الرقائق الإلكترونية قد تشتعل قريباً.

وعلى صعيد التكلفة، ساد اعتقاد بأن شركات التكنولوجيا الكبرى ستظل مسيطرة على الذكاء الاصطناعي بسبب الحاجة إلى كميات هائلة من البيانات وقوة حوسبة ضخمة، ما يتطلب استثمارات مالية ضخمة، ويجعل النماذج المتقدمة حكراً عليها. وكانت التكلفة هي العائق الرئيس أمام دخول المنافسين، وهو ما يفسر الإنفاق الكبير لهذه الشركات على مراكز البيانات. ولكن نجاح نموذج (R1) يظهر أن الشركات ذات الموارد المحدودة قد تتمكن قريباً من تشغيل نماذج منافسة.

وأخيراً، على صعيد التطبيقات، يأتي دور ما يُعرف بـ«الاستدلال» وهو المرحلة التي يتفاعل فيها المستخدم مع الذكاء الاصطناعي عبر طرح الأسئلة وتنفيذ المهام. وكان الافتراض السائد أن هذه العمليات ستعتمد دائماً على نماذج وخوادم الشركات الكبرى. ولكن مع ظهور نماذج مثل R1، التي يمكنها تقديم أداء كافٍ وفعّال، أصبح بالإمكان إجراء هذه العمليات على خوادم شركات متعددة من دون الحاجة إلى استئجار خوادم من شركات كبرى مثل «أوبن إيه آي».

ورغم هذه التطورات، لم تتأثر أسهم شركات التكنولوجيا «السبع الكبار» بشكل كبير، باستثناء «إنفيديا»، فحافظت على مكانتها في عالم الذكاء الاصطناعي. في المقابل، تضررت بشدة أسهم الشركات المرتبطة باقتصاد مراكز البيانات، وخاصة شركات الطاقة مثل «كونستيليشن» في منطقة وسط الأطلسي، و«فيسترا» في ولاية واشنطن، و«إن آر جي» في الشمال الشرقي وتكساس.

وتعد شركات مثل «جي إي فيرنوفا»، و«إيتون»، و«كوانتا سيرفيسز» من أبرز الشركات التي تعمل على بناء أنظمة طاقة مخصصة لمراكز البيانات. كما، أعلنت «أوراكل» استثماراً كبيراً في هذا القطاع المتنامي. أما شركات مثل «برودكوم»، و«أريستا»، فتقدم حلولاً تقنية لا تعتمد على وحدات معالجة الرسوم (GPU) لخدمة مراكز البيانات. وقد تأثرت أسهم جميع هذه الشركات بشكل كبير أخيراً.

وعلى الجانب الآخر، استثمرت شركات التكنولوجيا الكبرى مثل «أمازون»، و«ألفابت»، و«ميتا»، و«مايكروسوفت» بكثافة في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. ورغم أن بعض هذه الاستثمارات قد تبدو مهدرة في ضوء التطورات الأخيرة، إلا أن هذه الشركات قد تستفيد من إمكان خفض إنفاقها المستقبلي. أما شركتا «آبل» و«مايكروسوفت»، اللتان تتمتعان بميزة تنافسية في تطوير التطبيقات أكثر من تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها، فقد تجد نفسيهما في موقع أقوى من ذي قبل.

ورغم ذلك كله، لا تزال شركة «إنفيديا» تتمتع بمكانة قوية في السوق. فلغة البرمجة الخاصة بها، المعروفة باسم «كودا»، لا تزال المعيار المعتمد في صناعة الذكاء الاصطناعي. كما أن كفاءة نموذج «ديب سيك» لا تعني أن النماذج الأقل تعقيداً لن تستفيد من القدرات الحاسوبية المتفوقة التي توفرها أحدث رقائق «إنفيديا». وعلى الرغم من الانخفاض الحاد في سعر سهم الشركة، إلا أن هذا التراجع أعاد السهم فقط إلى مستويات سبتمبر وهي مستويات تبقى مرتفعة للغاية.

من المهم إذن عدم المبالغة في تفسير رد فعل الأسواق تجاه نموذج (R1). فانخفاض مؤشر «ناسداك» بنسبة 3% يمثل يوماً سيئاً في السوق، ولكنه لا يرقى إلى مستوى الذعر. وصحيح أن نظرية هيمنة شركة واحدة على سوق الذكاء الاصطناعي قد تعرضت لضربة قوية، ولكنها لم تنتهِ بعد. وإذا كنا نتحدث عن فقاعة في قطاع الذكاء الاصطناعي، فقد تنفجر في المستقبل، ولكن هذا لم يحدث ولم نكن حتى قريبين من ذلك.