للحظة تشعر برغبة مباغتة في الاختباء، في الاختفاء ربما، للصمت الكامل، للذهاب لمكان لا يعرفه غيرك، مكان يمنحك ذلك الشعور بالأمان حتى وإن كان زائفاً، وبأنك شخص بعيد عن كل أحد وكل شيء وعن كل ما يجري في العالم، والأهم شعورك فيه أنك كائن غير مرئي وغير محسوس وغير مراقب.

كائن يمر محاذياً سور بيت مجهول لا صوت فيه، لكنه بالرغم من ذلك يختار أن يسير على أطراف أصابعه حتى لا يثير انتباه أي شخص، ولا يلفت نظر كائن من كان حتى وإن كان مجرد قطة، وكي لا تندلق عليه النظرات كلعاب، ولا تطوقه ثرثرة القيل والقال، والرياء والتنمر والأسئلة، حتى تبدو له كخيوط لزجة.

إنه يهرب ما استطاع إلى الهرب سبيلا، إلى أي مكان لا يعرفه فيه أحد، مكان يشعر فيه بحريته المأمولة، وإن كانت مؤقتة أو راهنة، حتى يتنفس شيئاً من البهجة كونه وحيداً وبعيداً ولا شيء يثير خوفه أو مخاوفه الكامنة في أعماق قلبه، أو اشمئزازه، أو قلقه، أو شعوره بالقهر والظلم وتفاهة البشر.

إنّ بشراً كثيرين يتخبطون في هكذا مشاعر قلقة وأسئلة وجودية صعبة، لا تقود لغير الفرار من الواقع والهروب إلى البعيد، هكذا صار طابع الحياة في مدن الحداثة واللهاث والاستهلاك، لكنّ أحداً لا يريد أن يعترف بذلك، فيصير ينغمس أكثر في الزحام كي لا يسمع ضجيج الداخل.

إنه يفر إلى الزحام وكأنه يفر إلى مكان يشعر فيه بالراحة وإن بدت مؤقتة، فهو يعرف بأن أي راحة هي مؤقتة في نهاية المطاف كما شعر بأن أي خطوة باتجاه الخارج تقربه من خطر السقوط في تلك الهوّة، هوّة القلق والتردد وإزاحة البشر وادعاءاتهم وسط عالم لا إنساني، يرى القتل والظلم والقهر فيغمض عينيه ويمضي!

إنّ واحداً من أسباب هذا القلق هو شعور الإنسان بالعجز والخوف وانسداد الأفق، فهو غير قادر على منع القتل من الولوغ في دم الضحايا كل لحظة، لكنه مجبر على الفرجة والشعور أكثر بالتخاذل، حتى الصراخ لم يعد قادراً على اجتراحه لأن صوته قد أغتيل وصودر منذ زمن!