مفارقة لافتة تلك التي حملتها الانتخابات الأمريكية والأسابيع التالية لها. فبينما كانت انتخابات 2024 الرئاسية هي الأولى منذ ثلاثة عقود تقريباً التي لم تحتل فيها الرعاية الصحية مكانة متقدمة، إذا بها تفرض نفسها فرضاً بعدها مباشرة.
والرعاية الصحية من أهم القضايا على سلم أولويات المواطن الأمريكي. فرغم التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل في مجال الطب بأمريكا، فإن المواطن الأمريكي العادي لا يستفيد منه. فتكلفة الرعاية الصحية الباهظة تجعل ذلك التقدم في متناول الأثرياء فقط.
أما المواطن العادي فقد يفلس أو يصبح مشرداً متى تعرض لمرض عضال. فالكثيرون لا يملكون تأميناً صحياً. وحتى الذين يملكونه يعانون. فما يغطيه التأمين من نفقات تحكمه، من الناحية الواقعية، قواعد السوق وشركات التأمين والأدوية العملاقة التي حولت الرعاية الصحية لسلعة تحقق أرباحاً خيالية.
لكن الرعاية الصحية لم تتحول لقضية انتخابية في 2024 ومنطلقاً لتنافس المرشحين. والمرات النادرة التي ذكرت فيها كانت في خطب المؤتمر العام للحزبين ودون تركيز على الحل. ولا غرابة في غياب القضية، فهي حتى تتحول لقضية انتخابية، لابد أن يجد المرشح في ذكرها ما يحقق مكسباً له.
وهو ما لا يتأتى من دون وجود فارق حقيقي بين مواقفه منها ومواقف غيره. لذلك، فلأن استراتيجية مرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، ركزت على قطاعات اليمين التي ترفض ترامب، كان لابد أن تقترب من مواقفه. ومن هنا، فإن تجاهلها لمواقف الديمقراطيين التقليدية بخصوص الرعاية الصحية حرمها من وجود فارق حقيقي بينها وبين ترامب بخصوص الرعاية الصحية، وغيرها من القضايا بالمناسبة، فغابت القضية من الانتخابات.
لكن ما هي إلا أسابيع قليلة حتى وقعت جريمة قتل رفعت القضية للصدارة. فقد اتُهم شاب في العشرينات، بقتل رئيس كبرى شركات التأمين أمام مقر الشركة. لكن المفاجأة كانت في رد فعل الأمريكيين إزاء الواقعة والمتهم بارتكابها، لويجي مانجيوني.
فبدلاً من إدانته، إذا بالأمريكيين يصبون جام غضبهم علناً على الشركة لا على المتهم، بل تحول مانجيوني، على وسائل التواصل الاجتماعي لبطل شعبي! وقد بدا المسؤولون منفصلين عن الواقع. فهم لم يذكروا علاقة الحدث بأزمة الرعاية الصحية واعتبروا رد فعل الناس «تمجيداً للعنف». والإعلام لم يكن أفضل حالاً، إذ فسر ردود الفعل إما بأنها تمجيد للعنف، وإما لأن مانجيوني شاب «وسيم».
لكن من يتابع بدقة ما قاله الأمريكيون في استطلاعات الرأي وما كتبوه في وسائل التواصل، يتبين له بوضوح العلاقة الوثيقة بين ردود الأفعال، وما يعانيه الأمريكيون من نظام الرعاية الصحية. والتعاطف مع مانجيوني يستحيل فصله عن تلك المعاناة. فلويجي مانجيوني لا يمثل الصورة النمطية المعتادة للقتلة. فهو من عائلة ثرية ومحبوب بين أقرانه. وهو حاصل على الماجستير بالهندسة ويعمل بها فضلاً عن أنه قارئ نهم. لكن مانجيوني اختفى فجأة مؤخراً من على وسائل التواصل، فأثار قلق أصدقائه.
وتبين لاحقاً أنه يعاني آلاماً مبرحة أجرى بسببها جراحة دقيقة في العمود الفقري فضلاً عن أنه أصيب بمرض لايم الذي يتسبب في الشعور المستمر بالإجهاد والعجز عن التفكير.
وقد وجدوا بحوزته مانفستو وصف شركات التأمين بأنها «طفيليات» وأنها «جلبت لنفسها ما يحدث لها»، الأمر الذي استخلص الأمريكيون منه أن مانجيوني كان شاباً واعداً، وأن ما فعله كان بسبب معاناته مع شركات التأمين الخاصة مثلهم حين وقع فريسة للمرض.
فالأكثر دلالة هو أن تعليقات الأمريكيين على وسائل الاتصال لم يخلُ أي منها من سرد مظلمة شخصية ترتبط بالحرمان من الرعاية الصحية اللائقة. وكثيرون اعتبروا الإعلام الأمريكي منفصلاً تماماً عن واقعهم، كونه اختار عقب الحادث أن يفرد مساحات للرعب الذي يعيشه رؤساء شركات التأمين، لا على الظلم الواقع من تلك الشركات على المواطن العادي.
بعبارة أخرى، لم يمجد الأمريكيون العنف، وإنما كانت ردود أفعالهم تصرخ قائلة، إن إدانة قتل رئيس الشركة واجبة ولكن لابد أن تصاحبها إدانة لقتل المواطن الأمريكي العادي، المسؤولة عنه شركات التأمين التي لا تترك للمواطن إلا الإفلاس أو الموت مرضاً.