ترامب و«فضيلة» القوّة

مرّ ما يزيد على الأسبوع منذ تسلّم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض، ولا يكاد يمرّ يوم واحد من دون أنّ يتفاجأ العالم بقرارات جديدة في شكلها ومحتواها، وهي تندرج في إطار سياسة تقطع مع الماضي بكلّ ثقله وتداعياته.

وبمعاينة وتفحّص أغلب هذه القرارات يتبيّن أنّ ساكن البيت الأبيض الجديد ينفّذ أجندته السياسية الداخلية والخارجية بكلّ تفاصيلها ويبدو أنّه في عجلة من أمره، محاولاً الاستغلال الكامل للسنتين المقبلتين اللتين ينعم فيهما بأغلبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس) قبل الانتخابات الجزئية التي ستُجرى بعد انقضاء العامين.

وما يشدّ الانتباه هو سياسته الخارجية التي يُمسك بها نخبة صقور من المقرّبين له ومن الذين أدوا أدواراً كبيرة في الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، وهي سياسة عنوانها الأبرز، التلويح باستعمال القوّة بكلّ أبعادها لتحقيق مجمل الأهداف حتّى تلك التي تبدو في قطيعة تامّة مع النواميس القانونية والأخلاقية التي تحكم هذا العالم.

ومثّلت تصريحاته عن النية في زيادة الضرائب على بعض الدول، والنية في استرجاع قناة بنما وضمّ كندا وأراضٍ من مملكة الدنمارك والانسحاب من اتفاقيات باريس في شأن المناخ وكذلك من منظمة الصحّة العالمية.

وإطلاق برنامج القبة الحديدية لحماية أمريكا ضدّ أعداء هلاميين ما سيؤدّي بالضرورة إلى عودة سباق التسلّح على حساب متطلبات التنمية، وآخر ما صرّح به عن الحاجة إلى تطهير قطاع غزّة من 1.5 مليون فلسطيني وترحيلهم إلى دول مجاورة، مثّل كلّ ذلك ضربة كبرى لقواعد وقرارات الشرعية الدولية ولمبدأ التعاون الدولي وقواعده التي تمّ إرساؤها منذ سنة 1945 بعد حرب كونية مدمّرة، دفعت جميع الأطراف إلى الإقرار بأنّ البديل عن الحروب هو إقامة منظومة تعاون وشراكة دوليين.

واللافت أنّ ترامب يتحرّك وفق إيمان راسخ بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكية قادرة على فرض سطوتها وقوّتها من أجل بلوغ أهدافها القومية والوطنية، وهي الإرادة ذاتها التي حكمت أداءه في العهدة الرئاسية الأولى بين 2017 و2021 ومن دون الأخذ في الحسبان.

فيما يبدو، المتغيرات الجديدة على مستوى العلاقات الدولية والتي أهمّها تنامي الحسّ القومي والوطني لدى عديد الدول وانهيار منظومة العالم الأحادي لمصلحة عالم متعدّد الأقطاب.

ولعلّ النقطة الأكثر حساسية والتي يبدو أنّ ترامب أغفلها، هي أنّ مجمل سياساته الجديدة لا تأخذ في الحسبان معاناة الولايات المتحدة من تبعية اقتصادية، مظهرها الأساسي الاختلال الكبير على مستوى التبادلات التجارية والاقتصادية مع باقي دول العالم وهي إلى ذلك تستهلك أكثر فأكثر ما ينتجه الآخرون، وهي سياسات لا تحسب قدرة الدول والأطراف الخارجية على التحمّل والتسامح في حقوقها المشروعة، وهو ما قد يؤدّي بالضرورة إلى تصادم الإرادات، صدام يرى المراقبون أنّه لا يخدم مصالح الولايات المتّحدة على المدى المتوسط والبعيد.

ويبدو أنّ الشعبوية الجديدة التي يحمل رايتها ترامب تسعى إلى التوظيف الأمثل للقوّة الأمريكية التقليدية لتجعل من هذه القوّة «فضيلة» وأداة من أدوات السيطرة بصرف النظر عن الحقائق الجغراسياسية والتاريخية والسياسية والقومية وهو ما يجعل منها ضرورة مرحلة انتقالية يمكن أن تقود إلى عالم غير مستقرّ يفتح على سيناريوهات مختلفة وكارثية، وإنّه لا مناص من الإقرار بأنّ القوّة لا تمثّل بحال من الأحوال بديلاً عن الدبلوماسية لأنّها قد تؤدّي إلى تحالف الكلّ ضدّ صاحبها.

وقد بدأ الكثير من التململ يدبّ في صفوف حلفاء الولايات المتّحدة التقليديين جرّاء نوايا الرئيس الأمريكي وخصوصاً في ما يتعلّق بالزيادة في الضرائب والانتهاكات الصارخة لقرارات الشرعية الدولية ولتنصّل الولايات المتحدة المنتظر من التزاماتها الدولية في علاقتها بعدد من الاتفاقيات المتعلقة بالمناخ أو بتمويل الهيئات والمؤسسات الدولية المختصّة، وهو ما يدخل العلاقات الدولية في بوتقة عدم الاستقرار والخطر.

إنّ ديمومة العالم لا تضمنها الصدامات والحروب وإنّما هي نتاج منطقي للتعاون بين الأمم والشعوب وهي البديهية التي يجب على قادة العالم استيعابها والعمل بمقتضاها لأنّ البديل عن ذلك هو الخراب المضمون.