قيمة الكتاب ونفعه لا تخفى على كثير من الناس؛ بله أن تخفى على العلماء والحكماء والأدباء. وقد عبر أبو عثمان الجاحظ عن ذلك بقوله: «الكتَابُ هُو الجَليسُ الذي لاَ يُطريكَ والصَّديقُ الذي لَا يُغريكَ والصَّاحبُ الذي لاَ يُريدُ استخرَاجَ مَا عندَكَ بالمَلَق». ومع ما للكتاب من قيمة غالية، ومكانة عالية، إلا أن صاحبه الذي بذل فيه الغالي والنفيس قد تضطره الحاجة إلى بيعه بثمن خسيس؛ دراهم معدودة تقيم أوده وتصلحُ حاله، وتحفظ حياته. وقد ذكر لنا التاريخ قصصاً سجلت بيع بعض العلماء كتبهم، بعبارات خالدة؛ تقطع القلب، وتفتت الكبد! قاطعاً مهجة المساكين منهم... بسكاكين تقطع القلب حزا ولعل أشهرها ما حكاه الخطيب التبريزي اللغوي: أن أبا الحسن الأديب كانت له نسخة من كتاب «الجمهرة»؛ لابن دريد في غاية الجودة، فدعَتْه الحاجةُ إلى بيعها، فباعَها، واشتراها الشريفُ المرتضى بستين ديناراً، وتصفَّحها، فوجد بها أبياتاً بخطِّ بائعها أبي الحسن؛ وهي:
أنِسْتُ بها عِشرينَ حولاً وَبِعْتُها
لقد طالَ وَجْدي بعدَها وحنيني
وما كان ظَنِّي أَنَّني سأَبيعها
ولو خلَّدتْني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصِبْيَةٍ
صِغارٍ عليهم تَسْتَهِلُّ شُؤوني
فقلتُ ولم أَمْلِكْ سوابقَ عَبْرةٍ
مقالةَ مكويِّ الفؤادِ حَزِين
وقد تُخرِجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالكٍ
كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضنين
فما إن وقعت عينا الشريف على الأبيات حتى أعاد النسخة إلى صاحبها، وترك له الدنانير. هذا وكان الشريف نفسه شاعراً رقيقاً ترك ديواناً فقد مع ما فقد من آثاره العلمية والأدبية، ولكن مقاطع كثيرة جميلة قد حفظت في بطون الكتب التي ترجمت له، فمن رقيق أبياته قوله يتعشق حسان نجد:
أُحِبُّ ثَرَى نَجْدٍ وَنَجْدُ بَعِيْدَةٌ
أَلَّا حَبَّذا نَجْدُ وَإِنْ لَمْ تَعُدْ قُرْبَا
يقولون: نجد لست من شعب أهلها
وقد صدقوا لكنني منهم حبًّا
كأني وقد فارقت نجدًا شقاوةً
فتًى ضل عنه قلبه ينشد القلبا