التخطيط عند الكائنات الحية

تفوتنا معظم الفرص لأننا لم نستعد لها مادياً أو علمياً أو نفسياً. ولذلك كان التخطيط سنّة الحياة. من لا يخطط فإنه يخطط لفشله. وكذلك الشركات والبلدان التي تخطط إن لم تصل إلى وجهتها فإنها على أقل تقدير تقترب من الهدف المنشود.

عندما يتولى أي رئيس أمريكي جديد زمام المسؤولية، تدخل عليه الملفات، واحداً تلو الآخر، ليضع مع فريقه خريطة أولوياته للعام الجديد. وحين يجني التاجر ربحاً وفيراً، يجتمع مع فريقه المقرب لوضع خطة مدروسة لإدارة المبلغ وتنميته.

عالم الأرقام يقول إنك إن استثمرت مبلغ 100 ألف دولار بعوائد سنوية تقدر بـ 10 في المائة في سهم قيادي فمن المتوقع أن يتضاعف المبلغ خلال 7 أعوام تقريباً شريطة إعادة استثمار كل ربح سنوي (10٪).

وهو ما يسمى التأثير المركب compound. العالم آينشتاين وصفها بأنها «أعجوبة العالم الثامنة» لأنها مفهوم رياضي بسيط لكنه فعال في زيادة العوائد بشكل تصاعدي مذهل. هذا المثال يبرز قوة التخطيط المالي واستخدام الرياضيات في وضع أهداف واقعية وطموحة تسهم في تحقيق النجاح المالي على المدى الطويل.

في الشركات التي تحترم نفسها ومساهميها، يتم إعداد الميزانية التقديرية السنوية (الموازنة) أو budget كما تعرف عالمياً، وهي خطة مالية تتضمن تقديرات للمصروفات والإيرادات خلال عام مالي محدد. وتستخدم عادة لتحديد الأهداف المالية للشركة وإدارة مواردها بكفاءة. وتبنى الموازنة على معطيات دقيقة، تشمل الإيرادات المتوقعة، وتكاليف التشغيل، والمصروفات بأنواعها، والضرائب، وصافي الربح المتوقع.

ولا يمكن أن يكون هناك تخطيط استراتيجي بمعزل عن الموازنة، فبها تحدد المؤسسة أهدافها للسنة المالية. وتستخدم كذلك كأداة لمراقبة أي قرارات عشوائية، بل، في معظم الأحيان، لا يمكن أن يخول مسؤول إداري بصرف أي مبلغ مالي ما لم يكن مكتوباً في تلك الخطة المالية.

حتى الكائنات الحية تخطط معنا؛ فالنمل يسير وفق نظام تخطيطي عجيب، فهو يخزن أطعمة الصيف للشتاء القارس، ويعمل في فرق منظمة، ويتجنب إهدار الموارد، ويبني مسارات دقيقة. تعتمد هذه المسارات على «الفيرمونات» التي تتركها النملة على الأرض لتعمل كإشارات إرشادية (كيميائية) ليتبعها معشر النمل بدقة مذهلة نحو مصدر الطعام أو إشعاره بالأخطار المحدقة ليفر منها.

النمل يدرك أن المخاطر «تفركش» خططه، وذلك يجعله ينفذ خططه المرسومة حتى في أشد البيئات تعقيداً. وكذلك شأن النحل الذي ينتج العسل باحترافية جماعية عظيمة، ويحافظ على خلاياه بنظام هندسي باهر، ويتواصل برقصات فريدة لنقل المعلومات.

التخطيط ليس ترفاً ولا مثالية بل أمراً مهماً لبلوغ الأهداف الفردية والمؤسسية. أرى أن كثيراً من الأفراد يخططون لأهداف وينسون وضع قائمة «باللاءات» التي لا ينبغي أن يفعلوها من سلوكيات وعادات، والتي تعد سبباً أساسياً في التأثير على إنتاجية الفرد وعلاقاته.

ولذلك هناك طرق عدة منها التخطيط الأسبوعي الذي ثبت أنه أفضل من اليومي، لأنه عبارة عن قوائم لأهداف نسعى إلى تحقيقها، ويرفع ذلك عن كاهل الفرد هم عدم إنجاز أهداف معينة في يومه، ففي الأسبوع متسع كافٍ لتدارك ما لم ننجزه. بعضنا ينجز لكنه ينسى الاحتفال بالإنجازات الصغيرة مع أنها تزيد الدافعية والحماسة.

كما أن البعض يعتبر الخطة نصاً مقدساً، لكن الأصل في كتابتها ليمكن تعديل ما يلزم بحسب تداعيات أو تغيرات الأحداث والموارد وغيرها. وهو أمر يحدث في المنظمات الكبرى وهو دليل على مرونة التخطيط التي تعد جزءاً أساسياً وواقعياً في وضع خطة قابلة للتحقيق.

التخطيط هو الركيزة الأساسية لتحقيق أهدافنا، وهو سر النجاح والتقدم في مناحي الحياة. ولا يمكن للكائنات الحية أن تحيا من دونه. الفارق بين معشر البشر وسائر الكائنات أننا مخيرون، أما الكائنات الحية فهي مسيرة بغرائزها الفطرية التي تضمن استمرارها وبقاءها بفضل ملَكة التخطيط الغريزي.