القوة التفاوضية

لا يمكن أن تشتري هاتف «آيفون 16» في إندونيسيا! كل ما في الأمر أن تلك الجمهورية التي يعيش فيها 280 مليون نسمة، قد قرروا أن يمارسوا حقهم في إلزام شركة «آبل» بمتطلبات المحتوى المحلي (LCR) التي تشترط تصنيع 40 في المئة من أجزاء الهاتف محلياً. غير أن «آبل» لا تمتلك مصانع في إندونيسيا، وبالرغم من ذلك فقد أسست أكاديميات لتطوير التطبيقات منذ 2018.

تحاول إندونيسيا عبر وزير صناعتها الاستفادة من ضخامة قوتها السوقية بمناقشة استثمار جديد للشركة يُقدر بمليار دولار لتصنيع مكونات الهواتف والامتثال للوائح، لكن الوزير وصف المبلغ بأنه «غير الكافي».

في الأعراف التفاوضية، يمكن أن يفرض القوي شروطه على المحتاج. وحدث ذلك في القارة العجوز. إذ يرى الأوروبيون أن حكومة الصين قد قدمت دعماً غير عادل لصناعتها، في إشارة إلى عدم تكافؤ منافسة شركاتهم الأوروبية (التي تعمل وفق مفهوم السوق الحر) مع الأخرى الصينية التي تتلقى دعماً هائلاً من حكومتها، وهو ما تنفيه الصين.

الأوروبيون لا يريدون أن تنافس الحكومة الصينية شركاتهم العريقة في عقر دارهم، فقرروا وضع ضريبة تبلغ نسبتها 45 في المئة. ثم استخدمت الصين مكانتها التفاوضية وهددت بفرض عقوبات مماثلة على منتجات أوروبية واسعة الانتشار، منها السيارات ومنتجات الألبان. وربما هذا ما دفع شركات السيارات الألمانية، الأكثر دخلاً في أوروبا، إلى تسجيل اعتراضها على قرارات الاتحاد الأوروبي خشية تداعيات حرب اقتصادية.

وعلى الجانب الآخر، استخدمت الصين قوتها الاقتصادية في تطوير مذهل وسريع للسيارات الهجينة، ودخلت على خط السيارات الكهربائية التي سوف تعم أرجاء أوروبا بحلول عام 2035. وقد قرأت عن نية الأوروبيين فرص نسبة تصنيعية محلية للسماح للسيارات الصينية الجديدة بدخول اتحادهم، ولا أعلم إن كان بمعزل عن الضرائب من عدمه.

صحيح أن في الاتحاد قوة، لكن الأوروبيين، مثل غيرهم، ينتصرون تارة ويخسرون تارة. فعالم التفاوض أشبه بمباراة كرة القدم، قد تقصم ظهرك خسارة غير متوقعة رغم صلابة فريقك، لسبب بسيط، وهو أن الطرف الآخر قد يستفيد من نقاط ضعفنا، أو يستخدم معنا عنصر الوقت.

ولذلك كان من أبجديات القوة التفاوضية حسن اختيار التوقيت، فمن يتحكم بالوقت يمكنه أن يُحدث فرقاً كبيراً. ومن أمثلة ذلك اقتناص فرصة اضطرار الشركات إلى إنهاء صفقاتها قبل انتهاء العام المالي، وذلك بالضغط عليها لإتمام الصفقة بأي ثمن.

كما أن المؤسسات والأفراد الذين يمتلكون «معلومات أكثر» عن حاجات ورغبات الطرف الآخر يصبح لديهم قوة تفاوضية أكبر. قاعدة «التفوق المعلوماتي» تعني أن من لديه معلومات دقيقة يتملك 80 في المئة من قوة التفاوض.

كما أن «وجود خيار ثالث» يعزز من نفوذ الجالسين على طاولة التفاوض. فعندما انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بصعوبة عام 2020، اتجهت شرقاً نحو حليفها التقليدي (الهند) لتوقع مذكرات تفاهم لاستقطاب الهنود وفق برنامج إقامة مميز يسد حاجات السوق. واتجهت بريطانيا نحو قارات العالم لفتح «تجارة حرة» مع شتى البلدان.

على الصعيد الشخصي، كثيرة هي تكنيكات تعزيز قوة التفاوض، منها ما لا يخطر على بال البعض وهي «التحكم في الصمت». فقد تبين أن التزام الصمت خلال اللحظات الحرجة في التفاوض يشكل ضغطاً نفسياً على الجانب الآخر، الأمر الذي يدفعه إلى التسرع بتقديم تنازلات، وهذا ما يجعل البعض يطيل أمد رد الفعل ليثير مخاوف في ذهن الآخر من أن خصمه قد ينسحب من تلك الصفقة في أي لحظة.

«الرفض المبدئي»، أو التلميح له، قد يؤدي بمن نفاوضه إلى التراجع خطوة أو خطوات في محاولة لإرضائنا. المشكلة إذا كان الطرف الآخر يمارس التكنيك نفسه، هنا تصبح المهمة أصعب وتتطلب فراسة في المفاوض لفهم ماذا يجري أمامه.. ووراء الكواليس.

فنيات تعزيز قوة الموقف التفاوضي تُستخدم على صعيد المؤسسات والأفراد. وما أكثر الصفقات المليونية التي ضاعت هدراً لأن اختيار عناصر التفاوض لم يكن موفقاً، ولذلك من البديهي أن تتغير الأوجه لتليين المواقف أو دفع الطرف الآخر إلى تقبل الوجه الجديد، وبشاشته، وجديته في التوصل إلى حل مرضٍ للطرفين.

وما أكثر ما يُعطل جهود التفاوض المضنية إصرار أحد الأطراف على تحقيق انتصار في جميع الجولات. فالتفاوض ليس حلبة ملاكمة تتطلب الفوز بمعظم الجولات، بل قد يكمن خلف تكنيك بسيط «ضربة قاضية» تغير مجرى التفاوض برمته.