المروءة والخذلان في القيادة

من أبشع صور الخذلان، ما قرأته عن قفز قبطان عربي من سفينته التي تعرضت للغرق في عرض البحر الأحمر، تاركاً وراءه ركاب السفينة يواجهون حتفهم! في المعارك الطاحنة تقتضي الحكمة الدفاع عن القائد ببسالة لحمايته لأنه يمثل رمز الشرعية ومصدر القيادة ورفع المعنويات. ولذلك «لا يُتوقع» منه أن يفر من أرض المعركة.

في ميادين الحياة معارك، نخوضها فرادى وجماعات. ويقود الجماعة من نتوسم فيه الخير حتى يسقط في أول اختبار لـ«مروءته القيادية». فمن المروءة الوفاء بالعهود والالتزامات، والدفاع عن المستضعفين والمظلومين، وإعانة المحتاج قبل أن يطلب.

ولذلك قيل إن «المروءة أن تحفظ النفس عما يخل بالشرف». المروءة باختصار معيار أخلاقي قبل أن يكون معياراً لقوة القائد.

وعليه، فإن المروءة تمنع الخذلان. غير أن بعض الخذلان يكون مُتَعَمداً، وذلك حينما يقصد المسؤول التراجع عن كلامه أو وعوده، ليرى كيف يخرج أتباعه من تلك الورطة. هناك مثلاً من يَعِد أو يطلب شفاهة ثم يتراجع لاحقاً على اعتبار أن كلامه لم يوثق كتابة.

في العمل الإداري، ليست كل التوجيهات مكتوبة، حيث يستند بعضها إلى أساس الثقة لاعتبارات طبيعة الموقف والسرعة. غير أن الصدمة تأتي عندما يخذل القائد أتباعه بعدم الدفاع عنهم عند وقوعهم في معضلة. الناس لا تحترم قيادياً يخذلهم.

الخذلان في القيادة ليس قراراً شخصياً بل جرح غائر يحدثه المسؤول في وجدان جماعته.

وشتان بين الخذلان والمروءة في اللغة. فالخذلان حسب لسان العرب هو ترك النصرة والعون وقت الشدة والحاجة. أما المروءة فهي «كمال الرجولة» والنبل والأخلاق الرفيعة.

ومن أمثلة المروءة قرار الزعيم نيلسون مانديلا بُعَيدَ خروجه من السجن بعفوه عن خصومه الذين زجوا به في السجن لنحو عقدين، ثم ساد قومه وكسب احترامهم، وأصبح رئيساً للبلاد.

من مروءة القياديين، تحمل المسؤولية الكاملة في الأزمات. في عام 2010 تعرض منجم سان خوسيه في تشيلي لانهيار أدى إلى احتجاز 33 عاملاً تحت الأرض بعمق يتجاوز نصف كيلو واستمرت معاناة العالقين لنحو ثلاثة أشهر!

ثم تحمل رئيس العمال «لويس أورزوا» المسؤولية وعكف مع فريقه على إنقاذ حياتهم بنجاح. في الأزمات نجد من يبحث عن كبش فداء غير أن القيادي الشجاع هو من يتحمل المسؤولية.. ثم يحاسب.

كثير من القيادات الواعدة خرجت من ركام كمائن نصبت لهم للتأكد من جسارتهم وحكمتهم في التعامل مع مواقف صعبة أو مؤلمة. ولذلك كانت الأزمات هي المحك الحقيقي للقيادة.

هناك قضية جدلية في القيادة، وهي اعتقاد البعض بأن القائد الجيد هو من يحمل أخلاقاً جيدة بالضرورة. مثل قائد يبدو قاسياً ولكنه أنقذ ركاب السفينة من موت محقق.

وهناك من «القادة» من افتقر إلى قيم جيدة، مثل قائد فريق رياضي، منحط أخلاقياً وقد يستخدم أساليب ملتوية أو غير قانونية ولكنه ينجح في تحقيق النصر.

القائد باختصار هو من يستطيع أن «يؤثر» في الآخرين لتحقيق الأهداف المرجوة في ذهنه. فكثير من الدكتاتوريين نجحوا في تحقيق ما يصبون إليه في أرض المعركة وساحات المواجهة ولكنهم في نهاية المطاف سقطوا من أعين الناس ولم تخلدهم صفحات تاريخ القياديين الذين حملوا قيماً وأهدافاً نبيلة.

ولذلك كان أخطر قائد ذلك الذي يتحلى بالكاريزما الأخاذة، ويحسن التودد والتملق لمن هم فوقه ولكنه في حضيض الخسة والدناءة حينما يواجه من هم دونه.

الصورة الوردية أو الأبوية الحانية عن القائد لا تهيمن على عالم القيادة. فهناك قادة أخيار وأشرار. ومن القياديين من تتغير نصرتهم وخذلانهم بحسب بوصلة المصلحة المرجوة من تلك «الفزعة».