توضيح الواضحات عبث

حين كانت البداهات تغني عن الشرح، كانت عبارة «توضيح الواضحات من المشكلات» تقال تهكماً لأن البدهي لا يحتاج إلى شرح، أما اليوم فقد أصبحت وصفاً دقيقاً لواقع التبست فيه الحقائق حتى غدا شرح البدهيات عبثاً يكشف خلل الفهم قبل المعرفة، ومأزقاً فكرياً يعكس تآكل المعايير واختلال الاتجاه.

حين يُطلب منك إثبات كروية الأرض أو الدفاع عن أن الخير خير في ذاته، أو يسألك أحدهم إن كانت الفطرة مرجعاً أم مجرد وهم تربوي، فأنت لا تخاطب عقلاً يبحث عن يقين، بل عقلاً تاه في الشك وأنكر الفطرة، وتحول السؤال من وسيلة للبحث إلى حالة من التيه.

وقد لخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم الموقف بقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، أي إن الطمأنينة ليست ضعفاً في التفكير، بل علامة على اتزان العقل وسلامة الفطرة. غير أن بعض العقول جعلت الشك مذهباً، والاضطراب حرية، فصارت تهدم الموروث لمجرد أنه موروث، وتستبدل بالثبات قلقاً دائماً لا يعرف قراراً.

لم يأتِ هذا الانحدار الفكري من فراغ، بل كان نتيجة مسار فلسفي غربي طويل، بدأ مع النهضة حين أصبح الإنسان هو مركز الوجود، ثم جاءت الحداثة لتمنح العقل سلطة مطلقة، قبل أن تظهر ما بعد الحداثة فتهدم مفهوم الحقيقة الثابتة وتستبدله بالنسبية الكاملة، ويظهر نيتشه معلناً رفع إرادة القوة معياراً جديداً، فظهر الإنسان الحديث كمن تحرر من القيود، في حين أنه فقد المرجعية التي يهتدي بها.

على الجانب الآخر، واجه الفكر الإسلامي هذه النزعة مبكراً؛ فقد خاض الغزالي تجربة شك عميقة حين تساءل عن موثوقية الحواس والعقل لا لينفيهما بل ليبحث عن أساس أرسخ لليقين، فخرج إلى طمأنينة أعمق. ثم جاء ابن رشد مؤكداً -رغم دفاعه عن العقل- أن الإفراط في طلب البرهان يقود إلى شك معطل، وأن العقل وسيلة لبناء المعرفة لا لهدمها.

ليس كل سؤال للمعرفة؛ فبعض الجدل إعادة تصنيع للضوضاء. الأسلم أن نقرأ من سبقونا لا لنتوقف عندهم بل لنعبر من حيث انتهوا لا من حيث ابتدؤوا، فإعادة طرح الأسئلة القديمة دون الرجوع للإجابات التي صاغتها قرونٌ من البحث ليس تفتحاً فكرياً بقدر ما هو دوران في النقطة ذاتها تحت مسمى التفكير الحر.

وإن استمر هذا المسار فسنصل إلى زمنٍ نطالب فيه بتعريف الرحمة وتبرير الإحسان وإثبات أن الظلم شر، زمنٍ تناقش فيه البدهيات وكأنها ظنون ويغدو الواضح هو أكثر ما يحتاج إلى توضيح.